تضخم السلع يفاقم تحديات الاقتصاد الكلي والاختلالات المالية
بينما تسجل أسعار النفط يومياً مستويات تاريخية في الفترة الأخيرة، وصل معها البرميل نحو 130 دولاراً، يعتقد البعض أن هذا الاتجاه صحي للميزانية العامة، بحكم العوائد الإضافية المسجلة فوق سعر التعادل المقدّر للبرميل للعام المالي الحالي عند 90 دولاراً.
ظاهرياً تبدو هذه الفرضية واقعية، بحكم تدفق 40 دولاراً إضافية للميزانية عن كل برميل أقله آخر شهرين بالسنة المالية، لكن محاسبياً تعتبر هذه الحسبة غير منطقية، حيث سيعرّض صعود النفط المسجل الميزانية لصدمة فاتورة تمويل استهلاك الغذاء والسلع الإنشائية، والتي بلغت في المقابل حدوداً سعرية تهدد بابتلاع ما تجنيه الميزانية العامة من مكاسب نفطية، ومن هنا تبدأ القصة.
بمراجعة بسيطة لحركة أسعار السلع المصدرة من الكويت والمستوردة إليها، تبدو وجهة النظر المتفائلة بتداعيات ارتفاع النفط الإيجابية على الميزانية غير عملية، حيث تؤشر الأرقام إلى أنه مقابل كل دولار إضافي سجلته الميزانية العامة من النفط بالأسابيع الثلاثة الماضية، ستفقد دولاراً، بحكم اضطرارها لتوجيهه لتمويل القفزات السعرية للسلع الغذائية والإنشائية، ما يجعل مكاسب الكويت من ارتفاع النفط غير مرئية دفترياً.
وباعتبار أن الكويت بين الدول الأكثر تعرضاً لمخاطر ارتفاع أسعار الغذاء، بسبب اعتمادها شبه الكلي على الاستيراد، فإنها تكون منكشفة بالدرجة نفسها على زيادة إنفاقها على ما تستورده، فما سيدخل ميزانيتها من باب عوائد النفط، سيخرج صرفاً إضافياً على السلع الاستهلاكية التي اشتعلت أسعارها، لمستويات يصفها البعض بالمجنونة.
وفي غضون الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا، تفاقمت أسعار الغذاء العالمية لتسجل ارتفاعاً قياسياً بالقيمة الاسمية، وبلغت أعلى مستوى لها منذ 1974 بالقيمة الحقيقية، ما سيكون له آثار سلبية على الاستهلاك والتمويل الحكومي، وميزان المدفوعات بمعدل أكبر في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.
ويرجح أن يؤدي تعطل الإمدادات الغذائية من روسيا وأوكرانيا – اللتين تشكلان 26 في المئة من صادرات القمح العالمية وفقاً لإحصائيات 2020- لزيادة الضغوط التضخمية.
وترى وكالة «موديز» أن أسعار المواد الغذائية المرتفعة ستؤثر على ميزان المدفوعات والتضخم والماليات الحكومية، ما يفاقم تحديات الاقتصاد الكلي والاختلالات الخارجية والمالية.
وحسب «موديز» تمثل الأغذية 19 في المئة من واردات السلع بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا (باستثناء البلدان ذات الدخل المرتفع) و14 في المئة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وهي نسبة أعلى من المناطق الأخرى غير الجزرية.
ووفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، أظهرت الحركة العالمية لأسعار للغذاء ارتفاعاً قياسياً في فبراير.
الخبر غير السار هنا أن التعرض لموجة التضخم المتصاعدة، لن يكون موقتاً على الأرجح، بل طويل الأجل بدفع ما يحدث مع الشركات وآلية التسعير عالمياً.
وتبقى هذه التوقعات حاضرة إلى أن تتغير المعطيات والوقائع التي لا يمكن معها لجم تسارع وتيرة التضخم عالمياً، أخذاً بالاعتبار أنه حتى قبل اندلاع الصراع العسكري، يشير تغير المناخ وارتفاع تكاليف الأسمدة والطاقة إلى أن هذا الاتجاه سيستمر على مدار العام.
لكن السؤال الذي يبدو مشروعاً في هذا الخصوص، يتعلق بأنه إذا كانت أسعار الغذاء لصيقة لهذه الدرجة بحركة الطاقة، فلماذا لم تسجل القفزة نفسها التي حققها النفط إلا بالأسابيع الماضية؟
السبب بكل بساطة أن أسعار السلع الأولية تأتي مدعومةً عادة بعوامل العرض والطلب، وبينها تسارع وتيرة النمو العالمي، الذي يرفع طلب معظم السلع الأولية الصناعية، ومع تسجيل طلبات غير معتادة من السلع الاستهلاكية مقابل تزايد قيود معروضها ينمو الغلاء غذائياً وإنشائياً، فضلاً عن أن مستويات أسعار النفط جاءت في السابق مدعومةً بتخفيضات الإنتاج من منظمة أوبك وبعض البلدان من خارجها منذ يناير 2017، ما حسّن استهلاك النفط بمعدلاته الحقيقية.
لكن شيئاً ما تغير منذ فتح الحديث الجاد عن موعد الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث بدأت أسعار النفط منذ وقتها اكتساب زخم كبير، ليس لارتباطها بتصاعد استهلاكه، لكن لتخزينه، لاعتبارات جيوسياسية، وهو السبب نفسه الذي حفّز الدول المستورة للغذاء ومنها الكويت إلى رفع طلبها مما تستهلكه، في وقت تشهد فيه تكلفة النقل ارتفاعات غير معتادة، بسبب تباطؤ سلاسل التوريد عالمياً.