«الناتو».. ومعضلة مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين
شكل غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا خطأ استراتيجيا، رسخ من حيث لم يكن يريد، حلف شمال الأطلسي (الناتو) كأنجح وأطول حلف عسكري في التاريخ الحديث.
ولم يسفر غزو بوتين لأوكرانيا سوى عن تعزيز الحلف من خلال الإجماع غير المسبوق بين أعضائه منذ مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وحشد التأييد للاستعداد العسكري والالتزام المشترك لردع أي عدون ضد أي دولة من الأعضاء في الحلف.
وقال لورنس كورب الزميل البارز في مركز التقدم الأميركي ومساعد وزير الدفاع الأميركي سابقا، وستيف سيمبالا أستاذ العلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا، في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأميركية، إنه إضافة إلى ذلك، دعمت دول الحلف بقوة العقوبات الاقتصادية والإجراءات السياسية الأخرى لعزل روسيا وزيادة كلفة حربها على أوكرانيا. بل أكثر من ذلك، فإن الحلف بصدد التوسع ليضم دولا على حدود روسيا، وهي إحدى الحجج التي استغلها بوتين لغزو أوكرانيا بدعوى أنها ستجلب الحلف الى عتبة دار روسيا، رغم انها لم تنضم إليه بعد. إذ تقدم قادة فنلندا والسويد بطلب للحصول على عضوية الناتو في مايو الماضي. وسيزيد انضمام دولتين كانتا حياديتين سابقا، إلى الحلف من إحباط روسيا.
واعتبر كورب وسيمبالا أن الترابط السياسي بين دول الناتو واستعدادها العسكري، سيكون أساسيا للتعامل مع مجموعة متنوعة من التحديات والقضايا المفتوحة.
ومن بين هذه التحديات، كيفية التعامل مع روسيا في مرحلة ما بعد بوتين وردع وهزيمة الإرهاب الدولي وعلاقة الحلف مع الصين الصاعدة وقدرة الأعضاء على الحفاظ على الأنظمة الديموقراطية المستقرة داخل دولهم وتعزيز المؤسسات الديموقراطية بين الدول غير الأعضاء في الحلف، وكذلك توفيق الاستراتيجية العسكرية للحلف مع عالم التكنولوجيا الجديد الذي يمنح الامتياز للحرب المعرفية والفضاء والقدرات الإلكترونية.
واعتبر الباحثان أن القضية الأولى هي العلاقة السياسية بين الناتو وروسيا بعد تقاعد بوتين أو إقالته من منصبه. فخلال فترة طويلة من تسعينيات القرن الماضي، كان هناك تفاؤل كبير بأن روسيا ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، ستكون شريكا استراتيجيا للناتو يمكن الاعتماد عليه بدرجة أكبر. حتى أن البعض توقع أن روسيا أكثر ديموقراطية ستظهر على أنقاض الاتحاد السوفييتي السابق، إلا أن نسمات التفاؤل تبددت سريعا، بسبب الأحداث التي وقعت في نهاية التسعينيات.
وعندما استقال الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين وسلم الرئاسة إلى بوتين، كان المسرح مهيأ للعودة إلى رؤية روسية أكثر تقليدية للجغرافيا السياسية فيما يتعلق بالولايات المتحدة والناتو. وقد أدى تأييد بوتين للغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 إلى وجود علاقات ودية بين بوتين والرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش. ومع انتهاء ولاية بوش، كان بوتين قد تبنى موقفا أكثر تشددا إزاء حلف الناتو. وشكلت حرب روسيا مع جورجيا في عام 2008 نقطة تحول. وباسترجاع الأحداث السابقة، كانت الحرب بمنزلة مقدمة للأعوام الـ 14 التي تلتها.
ورأى كورب وسيمبالا أنه إذا تم حسم حرب روسيا ضد أوكرانيا في نهاية الأمر من خلال مفاوضات ديبلوماسية في أعقاب صراع عسكري طويل، فإن نظام ما بعد الحرب في روسيا سيكون أمامه عدة خيارات بوجود بوتين أو عدمه.
أولا يمكن أن يحتفظ بموقف إصلاحي إزاء النظام العالمي الحالي القائم على القواعد في أوروبا وغيرها. وثانيا، يمكن أن يتبنى سياسة تعتمد أكثر على الأمر الواقع تقبل بتسوية توافقية مؤقتة مع حلف الناتو المتوسع ويكتفي بالمكاسب القليلة التي حققها من الحرب ضد أوكرانيا، وعلى الأقل يتخلى على المدى القصير عن الطموح في فرض تغيير النظام في دول أوروبية أخرى كانت تدور في الفلك الروسي. وربما يتحرك النظام الروسي صوب هدنة مع الناتو وسياسة توسعية في الانخراط في المجالات الديبلوماسية والعسكرية والثقافية مع القوى الرائدة في الناتو، ومن بينها الولايات المتحدة. إن رحيل بوتين عن المنصب، ربما يدفع نحو الخيارين الأخيرين، على الرغم من أن هذا يعتمد على صراع السلطة الذي سيحدث بعده وأيضا على شخصية خليفته.
والقضية الثانية التي سيواجهها حلف شمال الأطلسي، ستكون أجندته الأمنية الجماعية فيما يتعلق بالإرهاب الدولي. وكان دعم الناتو للعمليات العسكرية الأميركية في أفغانستان عنصرا أساسيا من استجابة الولايات المتحدة القتالية وغير القتالية للتحديات التي شكلتها حركة طالبان وغيرها من المنظمات الناشطة هناك مثل تنظيم القاعدة.
وعلى الرغم من أن استراتيجية الأمن القومي الخاصة بالرئيس الأميركي جو بايدن تعترف بأن الولايات المتحدة تواجه الآن مشكلة ظهور منافسين ناشئين وتجدد تهديد اندلاع حرب على السلطة، فإن التهديد الذي يشكله الإرهابيون المحليون والدوليون لم ينته. وفي أعقاب الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان في أغسطس 2021، ستجد حركة طالبان وداعش وغيرهما من الجماعات التي لديها أجندات مناهضة للولايات المتحدة والغرب ملاذات جديدة ودعم خارجي.
أما القضية الثالثة بالنسبة للناتو، فهي كيفية إعادة التفكير في علاقته مع الصين الصاعدة. إن قوة الصين العسكرية والاقتصادية تشكل تحديا للنظام الدولي القائم على القواعد الأوروبية وتخلق أزمات أمنية متعددة للولايات المتحدة وحلفائها. وبالإضافة إلى التهديد الوشيك الذي تشكله على تايوان، تشكل الصين أيضا تهديدات لليابان وكوريا الجنوبية واستراليا والفلبين وڤيتنام وغيرها من الدول الأسيوية. كما أن الترسانة النووية الصينية طويلة المدى تتزايد. وهناك تحديات من البرنامج الفضائي الصيني المتطور وكذلك قدرة الصين على شن هجمات إلكترونية ضد الولايات المتحدة ودول أخرى.
والقضية الرابعة التي سيتعين على حلف الناتو التعامل معها، هي هشاشة السياسات الديموقراطية في نسيج معقد من الإيديولوجيات وتكنولوجيات الاتصالات في القرن الحادي والعشرين. إن القرن العشرين كان بمنزلة رسالة تذكير أنه يمكن الإطاحة بالديمقراطيات من الداخل نتيجة لقوى معارضة اقتصادية وسياسية واجتماعية. وفي القرن الحادي والعشرين، ستواجه أوروبا الديموقراطية تحديات متعددة، من بينها نمو الأحزاب القومية المتطرفة. ناهيك عن تعطل سلاسل الإمداد وانتشار الجوائح وتعطل الأسواق والإكراه السياسي والضغوط العسكرية من أنظمة استبدادية ضد أنظمة ديموقراطية، داخل وخارج أوروبا.
وأكد كورب وسيمبالا أن القضية الخامسة والأخيرة أمام حلف شمال الأطلسي هي أن يوفق استراتيجياته وسياساته مع التكنولوجيات الناشئة للردع والقتال في المجالين الفضائي والإلكتروني وواجهات التواصل بين الإنسان والآلة وحرب الطائرات المسيرة والتطورات غير المتوقعة في الهندسة الحيوية وتكنولوجيا النانو والعلوم المعرفية. واعتبرا أنه إذا كان القرن العشرين هو أوج الدمار الشامل في العصر الصناعي، فإن القرن الحادي والعشرين سيقدم مجموعة متنوعة من الأماكن والبيئات غير التقليدية للصراع، والتي غالبا ما ستكون مقترنة بالعمل الحركي.
واختتم كورب وسيمبالا تقريرهما بالتأكيد على أن طريقة تعامل الدول الأعضاء في حلف الناتو مع تلك التحديات هي التي ستحدد ما إذا كان الحلف سيظل الحلف الأنجح في التاريخ الحديث. وشددا على أنه لا يمكن للحلف في الوقت الحالي أن يسقط في حالة من التهاون أو الشعور بالرضا عن الذات.