#ليالي_القاهرة.. #ذكريات_السلطان_الفضلي
✍ ناصر الوليدي – كاتب يمني:
في هضبة الهرم وفي شقته في الجيزة بالعاصمة المصرية القاهرة كان لنا حديث شائق من أحاديث الذكريات في ضيافة الوالد أحمد بن حسين بن عبدالله الفضلي المولود عام 1940 م، طاف بنا في ذكرياته منذ طفولته في كنف السلطنة الفضلية العريقة في ظل عمه السلطان عبد الله بن عثمان، ووالده نائب السلطان ومهندس تطوير السلطنة الفضلية..
إلى دراسته في المدرسة الابتدائية في مدرسة أبناء السلاطين في جبل حديد، وصولا إلى الدراسة في القاهرة ولندن والتطواف على الكثير من دول العالم حيث زار مضيفنا معظم دول أوربا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية والهند وعدة دول من شرق آسيا وكل الدول العربية، وقيادته للحرس السلطاني ثم خلافه مع الإنجليز ونفيه إلى لندن ثم قصة سقوط السلطنة وقدومه إلى مطار عدن قبل الاستقلال بيوم واحد ودموع المضيفة السورية ، والمغامرات التجارية في السعودية والعمل في عمان. وقصة عاقل القرية العمانية الساحلية الذي يعرف شقرة بيتا بيتا.
إلى لقاءات الملك فيصل والقادة. وقصة زواجه بالفتاة الايسلندية والذي أسس ولدها الأبيني عمر حزبا سياسيا. وفاز بمنصب نائب محافظ إيسلندة والذي يستعد هذه الأيام للترشح لمنصب محافظ إيسلندة. وكيف قرأ في صحيفة الديلتلجراف خبر إغتيال أحمد بن عبدالله الفضلي وهو في طريقه لزيارة صديقه ديفيد ابن قائد الحرس الملكي البريطاني. وقصة سجنه في حفر الباطن بسبب زيارة ملك البحرين السابق وغرائب الأحداث والمصادفات والمغامرات.
كما أكرمنا باستضافتنا على الغداء الدسم والحديث الجميل في لقاء حافل بكل معاني الصدق والشفافية والمصارحة.
الفضلي والوزير البريطاني (شاكلتون) والملك فيصل
وبوجهٍ لا زالت تتدفق فيه موجات الثقة والعزم والإصرار يلتفت إلينا الشيخ أحمد بن حسين الفضلي سليل البيت السلطاني ليستكمل ذكرياته وتقلباته في بلاد الله الواسعة عبر هذه العقود التي أوشك على استكمال الثامن منها، لكنه يرسم الأحداث كلوحة الفنان الماهر الذي يحسب لكل خط ولون في لوحة رسمها الزمن بريشة الطموح والمعاناة والألم والتشرد والاعتداد بالذات والتاريخ .
يتقافز حفيداه في حجره ويطبع عليهم قبلات تقطع حديثه، ويتبادل معهم بعض الكلمات التي ترخيها سحائب عواطف الجد على بذوره التي زرعتها يد الزمان في تراب حملته رياح القدر من أبين إلى حيث لا قرار .
فهناك بين ثلوج إيسلندة له أحفاد من ولده (عمر) ابن زوجته الايسلندية التي تعرف عليها أثناء دراسته الأمنية في بريطانيا (١٥ شهر) والتي رجع منها برتبة (نقيب) وزوجة إيسلندية تزوجها بعد تخرجه بعام واحد فقد تخرج عام ١٩٦٤ م ليعود في العام الثاني إلى هناك لعقد قرانه واستصحاب زوجته إلى أبين، ليدوم زواجهما أربع سنوات وينتج عنه المولود عمر الذي عاد مع أمه ولازال هناك إلى اليوم ويخوض هذا الشاب الفضلي هذه الأيام الإنتخابات للفوز بمنصب محافظ إيسلندة.
وله أحفاد أيضا في إيسلندة من ابنته المهندسة التي تزوجها مسلم ايسلندي أثناء عمله في المملكة العربية السعودية.
وهناك في جنوب الكرة الأرضية من الطرف الآخر أخذت الرياح بذور الفضلي حيث له أحفاد من ابنته الأخرى التي تزوجت مسلم من (كايب تاون) في جنوب القارة الأفريقية قرب رأس الرجاء الصالح.
يزفر الفضلي زفرة وهو يتحدث عن (ليالي السقوط) سقوط مايزيد على عشرين سلطنة تمتد على طول وعرض اليمن الجنوبي، ليالي سقوط السلطنة الفضلية التي يقارب عمرها الخمسمائة من السنين، لقد كان الأمر أكبر مما يستوعبه رجل قوي حازم طموح مثله، لكن رياح التغيير العالمية كانت أقوى من أي عزم .
بينما كانت البلاد تغلي ببراكين الثورة والسياسة والفوضى كانت هناك في لندن المفاوضات التي ترعاها بريطانيا للتعاطي مع الأوضاع الجديدة، خرجت جبهة التحرير من المعادلة وتحيز الجيش لصالح الجبهة القومية ليفرض واقعا جديدا، على بريطانيا أن تتعاطى معه، أو أنها فرضته بريطانيا ليتعاطى معها ضمن لعبة الخيط والجزرة التي تجيدها العجوز الكاهنة.
ذهب الشيخ أحمد بن حسين بصحبة عمه السلطان ناصر بن عبد الله للقاء وزير المستعمرات البريطانية (شاكلتون) والذي كان يفاوض وفد الجبهة القومية في لندن بشأن تسلمها البلاد. كان شاكلتون يضع بين أيديهم الوضع كما رتب له ،ويخبرهم أنه يجب عليهم مغادرة البلاد والخروج من المشهد !! وكان يكلمهم بمواساة ويقول لهم : حاولوا أن تهدأوا وتتوقفوا عن أي مواجهات أو مغامرات، ستخرجون من البلاد لفترة مؤقتة
وأرجو أن لا تنساقوا وراء وعود بعض الدول التي ستبدي معكم التعاطف وتعدكم بالدعم ( يشير إلى السعودية) هي فترة مؤقتة ثم تعودون إلى بلادكم.
فقال السلطان ناصر بن عبد الله :
كم هي هذه الفترة المؤقتة؟
شهر. شهرين. سنة. سنتين؟
فقال الوزير (شاكلتون) بل خمس وعشرون سنة.
ثم ضحك الفضلي وهو يستذكر عمه السلطان وهو ينتزع يده من يد شاكلتون رافضا كلامه جملة وتفصيلا. إلا أن الترتيبات الدولية كانت أكبر من السلطان وسلطنته.
قفزت كلمة (الترتيبات الدولية) بذهن الفضلي من وسط لندن إلى (منى) بمكة المكرمة حيث كان لقاؤه بالملك فيصل بعد خروجهم من البلاد واستقرارهم في المملكة العربية السعودية.
رشف الشيخ رشفات من كأس الشاي العدني ثم قبض بكفه على عصاه السوداء التي لا تفارقه وأدار أصابعه على رأسها فقال :
كان الملك فيصل جالسا وعن يساره مستشاره السوري رشاد فرعون ثم رئيس استخباراته التركي كمال أدهم ثم السلطان غالب بن عوض القعيطي ثم أنا.
فقال الملك فيصل :ما ترون فيما جرى لهؤلاء السلاطين؟
فقال رشاد فرعون بصوت أجش:
“لفظتهم شعوبهم“
ثم قال الملك :
ما تقول أنت يا كمال أدهم؟
فقال:
“القول ما قلت أنت ياطويل العمر ”
هنا نظر إلينا الملك وقال : هؤلاء ضحية للعبة دولية كبيرة ليس لهم فيها ناقة ولا جمل.
ثم يعود إلى تذكر أيام السقوط ومن لندن حيث دعي للسمر مع صديقه ضابط الشرطة (ديفيد) وفي طريق ذهابه إليه اشترى صحيفة (الديليتلجراف) ليفاجأ فيها بخبر نقلته الجريدة عن إذاعة بي بي سي خبر اغتيال السلطان الثائر أحمد بن عبدالله الفضلي وهو السلطان الذي أشاد به الرئيس المصري جمال عبد الناصر، حيث هرع من القاهرة إلى عدن ومنها إلى شقرة للدفاع عن السلطنة من الثائرين وأثناء تحركه من شقرة إلى الوضيع تعرض لمحاولة الإغتيال تلك في منطقة العرقوب وقتل ثلاثة من حراسه وثلاثة من المهاجمين .
أخبر صديقه بما أوردته الصحيفة، فقال له ديفيد : أن أبي هو أحد قادة الحرس الملكي الستة وسوف أتصل به ليؤكد لي الخبر أو ينفيه.، قال فاتصل ديفيد بأبيه فاستمهله الوالد ساعة حتى يرد له الخبر من عدن ،لكن لم تمر سوى عشرين دقيقة حتى جاءه ديفيد بتفاصيل الحادث ثم قال له : في هذه اللحظات بالضبط أحمد بن عبدالله في سيارة بين بيحان وحريب.
قال : ثم سري عني وأجريت بعض الاتصالات وطمأنت الأهل عنه.
أما هو فقد طار من لندن إلى مطار بيروت وهناك منعه الضباط الإنجليز من السفر إلى عدن لأنه سيستقبله الموت ، وتحت إصراره على السفر بكت المضيفة السورية على هذا الشاب الذي يذهب إلى الموت بقدميه، وبمجرد وصوله إلى عدن حاصرة الجنود الإنجليز في المطار وارغموه على العودة من حيث أتي وكان ذلك يوم ٢٩ نوفمبر ١٩٦٧ م .
وبعده بيوم كان يوم الاستقلال وخروج آخر جندي بريطاني من عدن.
بسبب هتلر : ولدت زوجتي في أفريقيا
وتكررت زيارتنا للشيخ الفضلي، وتجدد معه اللقاء الجميل وحملنا معه مع أحاديث الذكريات التي يرويها حية متدفقة كأنه يعيش تفاصيلها ويخوض غمار ها قبل أيام، أخذ بنا الحديث مناحي شتى، سواء كان عن أخباره الشخصية أثناء دراسته في لندن وكيف تعرف على شابة بريطانية واستضافها على مائدته والتي اكتشف مدير كلية الشرطة أنها سكرتيرة الحزب الشيوعي البريطاني، أو كيف تحول موقف ضابط الشرطة منه في حادث سير بسيط تعرض فيه لموقف عنصري، أو مساهمته في تأسيس شركة في السعودية لا تزال تعمل إلى ساعة حديثه معنا.
وهي أحاديث مليئة بالعبرة تسجل حياة (شاب ثمانيني) من عائلة سلطانية تعرضت لكثير من المحن والنكبات وأنجزت الكثير من النجاحات ،وسطرت في تاريخ اليمن الجنوبي أحداثا عبر مئات السنين، وحينما أقول أن الرجل (شاب ثمانيني) فلن يدرك مغزى تلك العبارة إلا من اقترب من الرجل وحادثه وحاوره واستمع إلى ذكرياته التي سارت أقدامها عبر قارات العالم القديم، فالرجل رغم بلوغه الثمانيين فلازال يتمتع بهمة وطموح وقوة وحيوية معنوية تتدفق فيها دماء الأمراء، وما يرويه الرجل من ذكرياته يشي بأنه كان يحمل مؤهلات شخصية تجعل منه رقما صعبا في البيت الفضلي والمشهد السياسي آنذاك.
وبدون مقدمات وضمن حديث جانبي سألته عن زوجته والتي لا تزال على قيد الحياة ، ففتح ذلك السؤال قصة متداخلة اختلطت فيها السياسة والحرب والهجرة والمنافي، ونقلني إلى تلك الأيام التي شغلت الدنيا كلها بالحرب العالمية:
وحتى يؤسس للحديث من جذوره التسلسلية قال:
زوجتي هي ابنة عمي السلطان صالح بن السلطان عبدالله بن السلطان حسين بن السلطان أحمد بن عبدالله الفضلي، وزوجتي ولدت في أفريقيا في كينيا أو في تنزانيا لا أتذكر جيدا، وعادت إلى البلاد وهي طفلة تتكلم اللغة السواحلية.
وتبدأ القصة، حين قام عمه وأبو زوجته السلطان صالح بن عبدالله الفضلي بالتواصل مع الألمان للتخلص من الهيمنة البريطانية وتدخلها في شؤون السلطنة خاصة ، والبلاد عامة، وبدأت المراسلات بينه وبين الألمان للحصول على الدعم والمساعدة ، وفي استقدام الالمان حال تطورت الحرب وصار ذلك ممكنا، لكن المخابرات البريطانية لم تكن غافلة، واستطاعت أن تلمح مؤشرات تلك العلاقة وما زالت تتبع خيوطها حتى رصدت مراسلات السلطان ووصولها للألمان، على إثر ذلك ألقت البحرية القبض على (صنبور) مركب بحري صغير متجه إلى شقرة فوجدته محملا ببعض الأسلحة والذخائر والمعدات والرسائل والخطط، وعلى إثر ذلك كان الهجوم بالطائرات على شقرة والزحف البحري والبري نحوها حتى سقطت شقرة عام ١٩٤٠ م وهرب السلطان مع بعض أركان دولته إلى منطقة (سعيدة) بالجبل وبقي هناك لمدة أربعة أشهر، ثم جرت مفاوضات وحوارات في عدن اتفق من خلالها على ترحيل السلطان وعائلته إلى أفريقيا {كينيا وتنزانيا} وتعيين عبدالله بن عثمان سلطانا وكان نائب السلطان والد محدثنا النائب حسين بن عبدالله الفضلي.
وعبر البحر رحل السلطان مع عائلته وبقي في منفاه هناك من عام ١٩٤١ — ١٩٤٧ م . وفي عام ١٩٤٣ م ولدت زوجته هناك وعادت طفلة صغيرة تتكلم السواحلية.
بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وحسمت لصالح بريطانيا وحلفائها وبعد مرور سنتين جرت مفاوضات من العائلة السلطانية لعودة السلطان من منفاه إلى عدن ليعيش تحت إقامة جبرية موسعة حتى عام ١٩٥١ م ثم سمح له بعد ذلك أن يمارس حياته العامة والخاصة بعيدا عن السياسة فاشتغل بالتجارة وقام ببعض المقاولات مع شركاء آخرين حتى قيام الثورة وترحيله الإجباري الثاني إلى جدة بالمملكة العربية السعودية حتى وافاه الأجل عام ١٩٧٥ م.
لا زالت هناك الكثير من الذكريات والتفاصيل التي سيأتي الحديث عنها في حلقات قادمة.