إليزابيث الثانية.. نقطة قوة النظام البريطاني
كان ونستون تشرشل أول رؤساء وزرائها، وآخرهم ليز تراس، التي دعتها الملكة – وفقاً للشكليات المهذبة في الملكيات الدستورية – لتشكيل حكومة جديدة يوم الثلاثاء. وكان التنازل الوحيد الذي فرضه تقدم الملكة في العمر وضعفها المتزايد هو عقد الاجتماع في قلعة بالمورال، منتجع العائلة المالكة الاسكتلندي الذي كانت تقيم فيه الملكة منذ فترة، إذ اعتُبرت العودة إلى قصر باكنغهام – حيث تعقد مثل هذه الاجتماعات عادة – عملاً يفوق طاقتها.
والصور تحكي عن نفسها. فالملكة تبتسم، كحالها في أغلب الأحيان، وهي تتكئ على عصاها التي صارت تنازلاً نادراً فرضته عليها الشيخوخة. قدّر الله أن تكون تلك مشاركتها الرسمية الختامية، المشاركة الأخيرة في حياة بدأت عند بلوغها الحادية والعشرين من عمرها – أي قبل أربع سنوات من اعتلائها العرش – وكرّستها علانية من أجل “الخدمة”، وهو الوعد الذي وفّت به ببراعة وحساسية ودرجة فائقة من التفاني على مدى ثلاثة أرباع قرن من الزمان.
مواطن قوة النظام البريطاني
تتمثل إحدى مواطن قوة النظام البريطاني، برأي مجلة “ناشونال ريفيو” الأمريكية في افتتاحيتها، في خيط الاستمرارية التاريخية الذي ينتظم مؤسساته. فعلى مر السنين تطورت هذه المؤسسات، أحياناً بسرعة مبالغ فيها وأحياناً ببطء مبالغ فيه، لكنها لم تترك الماضي تماماً وراء ظهرها. فالنظام الملكي – الذي هو في حد ذاته مؤسسة طرأت عليها تغيّرات هائلة على مر القرون – كان المحور الذي تدور حوله تلك المؤسسات، وكان أيضاً – وإنْ بشكل غير مباشر – أحد مصادر شرعيتها.
والأدق، بحسب الافتتاحية، أن يُنظر إلى العاهل في يومنا هذا باعتباره تجسيداً رمزيّاً للدولة البريطانية، بوصفه “عَلماً حيّاً”، إذا جاز لنا استعارة تعبير لينين. فالنظام الملكي قوي نتيجة انعدام صلاحياته الرسمية. وهو يسمو فوق الصراع السياسي، لأسباب منها أنه لا يستطيع (إلا – نظريّاً – في ظروف نادرة للغاية) أن يلعب أي دور جوهري فيها.
وعلى هذا النحو بوسع العاهل أن يلعب دوراً موحِّداً لا يقدر بثمن، الأمر الذي يعززه الرباط الحي الذي يمثله مع الماضي، وهو الرباط الذي لم يزدد – في حالة إليزابيث – إلا قوة بفضل عمرها الطويل وأيضاً – في مملكة متحدة متزايدة الانقسام – بفضل علاقتها الوثيقة باسكتلندا وشغفها بها (كانت أمها ذات أصول اسكتلندية جزئيّاً وترعرعت هناك). ومن اللائق نوعاً ما، وفق الافتتاحية، أن نقول إن إليزابيث توفيت في بالمورال، المكان الذي أحبته.
إليزابيث مثالاً للضمير الحي والانضباط الذاتي
كآخر رئيس دولة في المنصب ممن خدموا في الجيش (انضمت إلى الخدمة الإقليمية المساعدة في 1945) إبّان الحرب العالمية الثانية، التزمت إليزابيث بالمعايير المتوقعة من جيل الحرب البريطاني، كما انعكست هذه المعايير أيضاً في النصائح المتعلقة بدور العاهل في الملكيات الدستورية الحديثة التي تلقتها من جورج السادس، أبيها الذي تاهت به حبّاً والملك الذي تشكلت شخصيته بعمق في سنوات الحرب.
وقالت الافتتاحية إن إليزابيث التزمت بضميرها الحي وعملها الدؤوب وانضباطها الذاتي، وعاشت حياة خلت على ما يبدو من الفضائح، فكانت نادراً ما تخطو خطوة في غير مكانها. وقد بذلت قصارى جهدها لكي تضمن (مع استثناءات عارضة صيغت بتحفظ، كما فيما يتعلق باستقلال اسكتلندا) تجنّب الكشف عن أي من آرائها السياسية، ممارسةً تكتّماً لم يتجلَّ بوضوح كبير – كحال الكثير من صفاتها الأخرى – في خليفتها الملك تشارلز الثالث.
واختتمت “ناشونال ريفيو” افتتاحيتها بالقول: “إن صفات الملكة، وتكيفاتها الدقيقة عموماً مع العصر الحديث، وكذلك – مع مرور السنين – ديمومتها الظاهرية، كلها أمور ساعدت بريطانيا على التغلب على أزمنة سادتها الاضطرابات والتغيرات السريعة. وقد حظيت الملكة الراحلة بشعبية شبه دائمة (مع غض الطرف عن فترة الهستيريا القصيرة التي أعقبت رحيل الأميرة ديانا)، وإنْ لم تكن في سنواتها الأخيرة أصبحت بمنزلة جدة الأمة أو جدتها الكبرى، فقد أصبحت شيئاً قريباً من هذا، بتبوّئها في عقول البريطانيين، وفي كثير من الأحيان قلوبهم، منزلة تعتبر في حد ذاتها تكريماً لحياة عاشتها كما ينبغي أن تعاش الحياة. فلترقد روحك في سلام”.