“بلاك روك” .. كيف وصل عملاق إدارة الإصول إلى حد “التحكم” في الاقتصاد العالمي؟
في عام 1988 أنشأ “لورانس (لاري) فينك” مع مجموعة من المساهمين شركة “بلاك روك”، وكان هدفه الرئيسي هو أن تصبح إحدى أكبر شركات إدارة الأصول حول العالم، وبعد 34 عامًا أصبحت “بلاك روك” هي الأكبر في هذا المجال، مع برنامج ذكاء اصطناعي يتيح لها التحكم في استثمارات كبيرة خارج إدارتها المباشرة، فضلًا عن نفوذ كبير في الأوساط الاقتصادية والسياسية الأمريكية والعالمية.
ويكفي القول إن الشركة حاليًا تدير استثمارات بقيمة 10 تريليونات دولار، وإن برنامجها المتطور والذي يعمل بالذكاء الاصطناعي ويعرف باسم علاء الدين يدير استثمارات بقيمة 22 تريليون دولار، وهي قيمة تتخطى الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، وتبلغ ربع الناتج المحلي العالمي.
مخاطرة قليلة
ويعرف رئيس الشركة في لقاء مع “سي.إن.بي.سي” إدارة الأصول على أنها التكيف مع البيئة الاستثمارية والتي تستمر في التغير بشكل سريع للغاية بما يستدعي ردود فعل موائمة، ويعتبر أن هذا هو ما جعل شركته متفوقة ولديها حصة تقدر بـ37-40% من سوق إدارة الأصول في العالم.
وعلى الرغم من حجم الاستثمارات الضخمة التي تديرها “بلاك روك” إلا أنها تفضل بدرجة كبيرة أن تضع استثماراتها في أصول قليلة المخاطر، وعلى ذلك فإن 79.1% من استثماراتها في العقارات والسندات وسلع الرفاهية والأسهم قليلة المخاطرة، بينما تستثمر الخُمس فحسب في استثمارات متوسطة أو عالية الخطورة.
ويرجع ذلك لأكثر من سبب لعل أهمها أن قاعدة عملاء الشركة واسعة للغاية وتشمل أشخاصا عاديين يسعون للحفاظ على مدخراتهم وتنميتها بالحد الأدنى من المخاطرة، كما أن بعض العملاء الكبار، مثل صندوق التقاعد الياباني الذي يستثمر جزءا كبيرا من أصوله البالغة 1.5 تريليون دولار مع “بلاك روك” أو من خلال برنامجها الشهير “علاء الدين” يميلون ايضًا للاستثمار منخفض المخاطرة.
ويرجع البعض ميل “بلاك روك” إلى الحد من المخاطرة إلى اتجاه رئيسها “لاري فينك” شخصيًإ إلى تجنب المخاطرة بسبب تعرضه للفشل في بداية مجاله عام 1986 وتسببه ببعض الحسابات المخاطرة في خسارة بنك متوسط الحجم في مدينة “بوسطن” لمئات ملايين الدولارات وطرده منه، بما لقنه ذلك درساً استغله لاحقا في إدارة “بلاك روك”.
صبر لسنوات
واتسمت رحلة صعود “بلاك روك” بقدر كبير من الصبر، وذلك من خلال صعود بطيء وتدريجي في أول 10 سنوات في عمر الشركة، ظلت خلال هذه الفترة تعمل على جمع المعلومات وتحليلها من خلال الاستفادة من توسع شبكة الإنترنت في هذا الوقت بشكل تدريجي حتى أصبحت رئيسية ومهمة للغاية حول العالم.
ويمكن القول إن “بلاك روك” شركة استفادت بشدة من الأزمات التي تعرضت لها الأسواق الأمريكية والعالمية لكي تحقق رحلة صعودها، وبدأ ذلك مع فقاعة “دوت كوم” حيث أوصت الشركة كافة عملائها قبل الأزمة بالانسحاب من سوق الأسهم لحساب الاستثمار في سوق السندات بوصفه أكثر أمنًا، وتجنبت خسارة فاقت 1.7 تريليون دولار لمن استمروا في السوق.
وكانت هذه التوصية (أو حتى التنفيذ في حالة ترك المستثمر للإدارة كلية لـ”بلاك روك”) بمثابة طوق النجاة لعملاء الشركة حيث جنبتهم خسائر الفقاعة عام 2001، لتنهار سوق الأسهم بنسبة وصلت إلى 75% في مؤشر “ناسداك” لأسهم التكنولوجيا حتى أكتوبر 2002، بينما تستثمر “بلاك روك” في الأصول الأكثر أمانًا.
الأزمة و”الفرصة”
وبحلول عام 2008، وعندما بدأت الحكومة الأمريكية في البحث عن كيفية توجيه برنامجها لإنقاذ الاقتصاد الوطني مع انفجار الأزمة المالية العالمية، كان السؤال الدائم هو “من ننقذ ومن نتركه يغرق؟”، وكان السؤال منطقيًا في ظل أن بعض المؤسسات قد تكون “أكبر مما ينبغي” بمعنى أن انهيارها سيتبعه انهيار مؤسسات أخرى بما سيؤثر على الاقتصاد كلية، قررت الحكومة الأمريكية منح هذه المهمة لـ”بلاك ووتر” وذلك بمرجعية أنها نجحت من الإفلات من الأزمة المالية السابقة.
وبدأت الشركة بالفعل بتوجيه أموال الإنقاذ للاقتصاد في البرنامج الذي بدأ بـ30 مليار دولار فحسب، ووصل وفقا لتقديرات لتريليوني دولار، بما جعل الشركة في وضع استثنائي، دفع البعض وقتها لوصفها بأنها “شركة تدير العالم” وهو الوصف الذي ذاع من بعدها وأصبح أكثر قبولًا مع نمو حجم الشركة واستثماراتها.
فمع وجود شركات مالية عملاقة في حزمة الإنقاذ مثل “بيير سيترنز” و”إيه. آي. جي” و”فاني مي” و”فريدي ماك” وغيرهم، فإن “بلاك روك” تمتعت بميزة تنافسية كبيرة على منافسيها، من خلال اتخاذها قرارًا بمن يبقى ومن ينهار، ومن يتم تعويضه بقدر كاف ومن يترك معلقًا بين الاستمرار والإفلاس، هذا فضلا عن بنوك ومؤسسات تضررت بشدة من الأزمة كان على عملاق إدارة الأصول تقرير بقائها في السوق من عدمه.
وحينها وصف المحلل المالي الشهير، “ويليام كولين”، “لاري فينك” بأنه يبدو كـ”ساحر أوز” (قصة حول ساحر متمكن) أو الرجل الذي يعمل وراء الستار فهو لا يظهر علانية إلا بشكل نادر وغير معروف للكثير من الناس في الولايات المتحدة وخارجها لكن أثره على الاقتصاد وقدرته على توجيهه استثنائيا بحيث تقارن أو تفوق مسؤولين رسميين في دول.
وقال “كولين”: “حسنًا فكر في اسم شركة كبرى، وليكن “آبل” أو “مايكروسوفت” أو “شل” أو غيرها، ستجدها في الأغلب إما عملاء لدى “بلاك روك” أو تقوم الشركة بالاستثمار فيها”.
الجدير بالذكر أن “بلاك روك” استغلت آثار الأزمة المالية العالمية نفسها وقامت بضم بنك “باركليز” عام 2009، بعد أن سبق لها ضم “ميريل لينش” عام 2006، مما دعم بشدة من موقف الشركة وزاد بشكل ملموس من عدد عملائها وحجم الأصول التي تديرها.
نفوذ مستمر ومتنام
ومع أزمة كورونا الأخيرة بدأت الحكومة الأمريكية أيضا، ورسميًا في استشارة شركة إدارة الأصول العملاقة حول برامج الإنقاذ للشركات المتعثرة بفعل الجائحة، ومرة أخرى عادت شركة “بلاك روك” إلى الواجهة لكي تقرر من يبقى ومن يندثر من الشركات الأمريكية.
ووصلت الشركة إلى حد أن التقديرات تشير إلى أنها تمتلك على الأقل 5% من غالبية الشركات الأمريكية الكبيرة، وتصل النسبة إلى 30% في بعض الشركات العملاقة أيضا.
والشاهد أن هذا الدور المتنامي الذي تلعبه الشركة في الاقتصادين الأمريكي والعالمي أثار انتقادات كبيرة، حيث إن الشركة المتغلغلة في الكثير من الكيانات الكبرى تمتلك قرار إغاثة الشركات من عدمه، وهو ما يشكل تعارضًا في المصالح كما يرى كثيرون، ويجعلها في موقع الخصم والحكم في كثير من الأحيان.
وبغض النظر عن تلك الانتقادات إلا أن “بلاك روك” تواصل نموها المحموم منذ إنشائها، حتى أصبحت تدير أصولًا هي الأضخم في العالم، بل وتساهم رسميًا في وضع السياسات الاقتصادية، خاصة مع تمتعها بمزايا تكنولوجية فريدة بدعم من برنامج “علاء الدين”.