البنوك توقف القروض المجانية جزئياً… الحسبة اختلفت
يبدو أن وهج المنافسة المصرفية على استقطاب العملاء الجدد من نافذة القروض المجانية بدأ في الخفوت، لكنه لم ينطفئ كلياً حتى الآن.
ومن المفيد هنا استحضار القصة من البداية، حيث تبنت العام الماضي البنوك المحلية، لا سيما الكبرى، إستراتيجية مغازلة شريحة معينة من المواطنين أصحاب الرواتب المرتفعة، في مسعى لاستقطابهم إلى محافظها بقروض تُمنح لهم دون أي فوائد، وذلك ضمن تحركات قادها بعض صانعي السياسة الائتمانية للنمو بمحافظ قروض الأفراد لديهم، أملاً في التوسع بالحصة السوقية إلى معدلات أكبر وأكبر.
البداية كانت بمنح العميل الجديد والمحدّد تعريفه بشروط تشي بأنه من أصحاب الرواتب العالية المستقرة، قرضاً حسناً بقيمة 10 آلاف دينار، ومع اشتعال المنافسة زاد العرض من أحد البنوك إلى 70 ألف دينار، لكن ذلك كان لفترة محدودة، وعبر محفظة مُقيّد سقفها بمبلغ منخفض غير مستدام، لكن سرعان ما استقرت البنوك الكبرى عند معدل 40 ألفاً.
ونتيجة لذلك أفلح أصحاب هذه الإستراتيجية في النمو بمحافظهم، على حساب البنوك الصغرى والمتوسطة التي واجهت ضغوط الهجرة العكسية من بعض عملائها أملاً في القرض المجاني.
طبقات عالية
وما زاد من تغذية هذه السياسة ما يعرف بـ«الأموال الرخيصة»، حيث إن أسعار الخصم كانت مقررة حينها بـ1.5 في المئة، فضلاً عن تمتع هذه البنوك بطبقات عالية من مستويات السيولة الضخمة في حساباتها الجارية الضخمة والمركونة لديها، دون فائدة ولو ضعيفة.
وفي الوقت نفسه، كان ملحوظاً انخفاض الشهية التشغيلية للبنوك في قطاع الشركات، مدفوعاً بضعف بيئة الأعمال المحلية والمعزّز بالتراجع المسجل في طرح المشاريع التنموية، علاوة على التعقيدات الاستثمارية التي ميّزت الأسواق محلياً وإقليمياً في الفترة الماضية لجهة المخاطر، إلى الحدود التي تراجعت معها فرص البنوك المناسبة والكافية لامتصاص فوائض سيولتها.
ومقابل ذلك، كان طبيعياً أن تبحث البنوك الكبرى عن أوعية استثمار استثنائية لأموالها الرخيصة والمتراكمة، فكان التوجه نحو التوسع بقاعدة قروض التجزئة الموجهة للمواطنين، بمنح أصحاب الرواتب العالية منهم قروضاً مجانية، أخذاً بالاعتبار العوائد غير المرئية من هذه السياسة، ومن ضمنها زيادة فرص توطيد العلاقة الائتمانية مع العميل القادم حديثاً، من خلال نوافذ مصرفية عدة، مع زيادة التركيز على العملاء المتميزين.
ولتمويل إستراتيجيتها، خصصت بعض البنوك جزءاً من محافظها لمنح القروض المجانية، والتي كانت بمثابة شيفرة السر التي راجت بين مسؤولي هذه المصارف في استقطاب العملاء الجدد، دون أن يضطروا لتحمل مخاطر مؤثرة لجهة احتساب تكلفة هذه الأموال.
لكن من الواضح أن شيئاً ما تغير أخيراً في هذه السياسة، إلى الحدود التي دفعت صانعيها إلى تهدئة درجة مغازلتهم للمواطنين من خارج محافظهم بسنّارة القروض الحسنة، وهنا يبرز السؤال: ما الذي تغير مصرفياً وجعل حسبة تكلفة الأموال مختلفة؟
لعل ما أذكى التحول للتكتيك الجديد بخفض حجم القروض المجانية، تغير اتجاهات الفائدة محلياً وعالمياً، للدرجة التي رفع معها بنك الكويت المركزي أسعار الخصم 6 مرات في 6 أشهر، وتحديداً منذ مارس الماضي وحتى 21 سبتمبر الماضي، ليتضاعف مع ذلك سعر الخصم من 1.5 إلى 3 في المئة.
وتتفق سياسة «المركزي» في هذا الخصوص مع زيادات الاحتياطي الفيديرالي الأميركي التي بلغ مجموعها حتى الآن 225 نقطة أساس، مع ترجيح مزيد من الزيادات في سياق سعي «الفيديرالي» إلى خفض معدل التضخم من معدل 8.3 في المئة الحالي إلى 2 في المئة.
وهنا يكون التحوّل المصرفي مبرّراً، خصوصاً من البنوك الكبرى، حيث لم تعد فوائض أموالها رخيصة كما كان سابقاً، فكل تحرك بسعر الخصم ولو بربع نقطة باتت تقابله عوائد مغرية.
كما أنه مع رفع الفائدة بدا واضحاً أن «المركزي» حريص على أن يقابل رفع فائدة القروض برفع موازٍ بأسعار الودائع، ما قلل من معدل ربحيتها، بخلاف ما كان دارجاً سابقاً حيث كان متاحاً تسعير الودائع بهامش أقل من القروض.
تنظيم السيولة
ولتعويض المصارف عن خطط الحفاظ رقابياً على جاذبية الدينار، لجأ «المركزي» ضمن سياسته لتنظيم السيولة المصرفية إلى استخدام أدوات تدخل إضافية، من بينها زيادة فائدة الأموال التي يسحبها من البنوك في صورة سندات وأدوات تورق.
وفي هذا الخصوص، أفادت مصادر مصرفية مسؤولة لـ«الراي» بأن فائدة «المركزي» على أموال البنوك المودعة لديه بلغت أخيراً مستويات قياسية وصلت إلى نحو 2.7 في المئة صعوداً من 0.75 في المئة كانت متداولة قبل مارس الماضي.
وأشارت إلى أن «المركزي» لم يكتفِ برفع فائدة هذه الأدوات بل فعّلها كثيراً قياساً بالمقرر في الفترة السابقة، سواء لجهة فترات السحب أو الأحجام.
ومع ضبابية المشهد الاقتصادي ووجود عائد أعلى عبر ودائع البنوك، يزداد الرهان المصرفي على ارتفاع رصيد الودائع لديها بصورة كبيرة، حيث درجت العادة أن يميل أصحاب رؤوس الأموال من خارج دائرة المستثمرين التقليديين إلى امتصاص أموالهم في الأوعية ذات العائد الثابت والخالية من المخاطر، خصوصاً في ظل تراجعات سوقي الأسهم والعقار، كما أن ذلك التغير في اتجاه الأموال يعكس استجابة حتمية لمستهدف «المركزي» من رفع أسعار الفائدة.
أسواق الأسهم
ولا يعد سراً مصرفياً أن الضغوط الكبيرة التي تتعرض لها أسواق الأسهم منذ فترة عالمياً ومحلياً، واقتراب أسعار فوائد الودائع من العوائد العقارية بعد خصم مصاريف تشغيل العقارات واستبعاد تحدياتها، يحفّز أصحاب الأموال أكثر على توجيهها نحو الودائع.
وللحفاظ على تدفقات رؤوس الأموال المقبلة إليها تجد البنوك نفسها مضطرة إلى رفع تسعيرها للودائع بنفس وتيرتها للقروض، لا سيما في ظل المنافسة المفتوحة مصرفياً على هذه الأموال التي تشكل أحد أهم مصادر التمويل لدى البنوك، وهذا اعتبار مصرفي إضافي يشجع على إعادة النظر في تكلفة جميع الأموال محاسبياً لتوفير هامش ربحية مناسباً أكثر بين حركتي الإقراض والإيداع.
ومن ثم لم تعد الأموال الهادئة في الحسابات الجارية رخيصة كما كان سابقاً، فيما باتت أسعار سندات وتورق «المركزي» بعوائد أعلى، ما استدعى من صانعي السياسة الائتمانية تخفيف الحدة التنافسية على القروض المجانية.
حصة مُجنّبة
وإثر ذلك، كشفت المصادر أن البنوك المشهورة بسخائها في منح القروض المجانية عدّلت أخيراً سياستها الائتمانية، إذ لم يعد مجدياً مصرفياً أن تستمر في إبقاء محافظ قروضها مشرّعة أمام العملاء بالدرجة نفسها مثل السابق وتجنيب المخصص نفسه.
ولفتت إلى أن البنوك لم تغلق محافظها بالكامل، وكذلك لم توقف كلياً تجنيبها للحصة الموجهة إلى القروض الحسنة، لكنها خفّضت قيمتها وأعدادها جزئياً، ليصبح منح قرض الـ40 ألف دينار في أضيق الحدود الممكنة، وموجّهاً للعميل الأكثر استحقاقاً، بتعديل شروط منح هذه التمويلات.
وأشارت المصادر إلى أن البنوك الصغرى والمتوسطة ستستفيد حكماً من هذا التغير، أقله لجهة خفض حدة الضغوط التي تتعرض لها محافظها بسبب سياسة القروض المجانية، والتي أسهمت في رفع معدلات مخاطر هجرة العملاء العكسية من محافظها منذ العام الماضي.
«المركزي» أفلح في الحفاظ على جاذبية الدينار… حتى الآن
كشفت مصادر مصرفية مسؤولة أن سياسة بنك الكويت المركزي لجهة التدرج في رفع الفائدة مع استخدام أدوات تدخل نقدية إضافية حفاظاً على جاذبية الدينار تبدو مجدية حتى الآن.
وبينت أنه رغم عدم مجاراة «المركزي» لقرار مجلس الاحتياطي الفيديرالي الأميركي الأخير، والذي رفع الفائدة ثلاثة أرباع النقطة دفعة واحدة مقابل ربع نقطة محلياً، لم يسجل مصرفياً أي حركة نشطة تذكر في ودائع الدولار على حساب الدينار.
ولفتت إلى أن الأرقام المسجلة منذ 21 سبتمبر الماضي تظهر أن وتيرة الإيداع بالدينار وبالدولار لا تزال بمعدلاتها الطبيعية، أو أقله مقبولة رقابياً ومصرفياً، ما يبدد المخاوف من أن تؤدي سياسة عدم اقتفاء أثر «الفيديرالي» في رفع أسعار الفائدة بالمعدل نفسه، إلى تدفق الأموال من أوعية الدينار إلى الدولار.
ومن ثم يكون «المركزي» أفلح في الحفاظ على جاذبية الدينار، كما كان يخطط، وإن كان ذلك بعبء تكلفة أكبر مقارنة بالسابق، فيما رجحت المصادر استقرار حركة الإيداع واتجاهاتها محلياً.
وأشارت إلى أن تحقق الترجيحات بإقرار «الفيديرالي» زيادات متتالية لأسعار الفائدة حتى نهاية العام، لا سيما إذا كانت بمعدلات مشابهة لقراره الأخير مقابل الإبقاء محلياً على سياسة التدرج، قد يستوجب توسعاً أكبر من «المركزي» في تفعيل استخدام أدواته النقدية للتدخل، في مسعى منه للحفاظ على جاذبية الدينار والذي يتطلب ردم الفجوة التي قد تتسع بين الفائدة على الدولار والأخرى الممنوحة على الدينار.