عندما اكتشف علماء الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت على مصر عام 1798 حجر رشيد، الذي يحوي نقوشا ونصوصا بالهيروغليفية لغة قدماء المصريين ونصوصا يونانية وديموطيقية، لم يكن هذا الحجر إلا مجرد ورقة عليها بعض المعلومات، لأن الإنسان الأول كان يسجل الأحداث المهمة بكتابتها على الحجر، وكان حجر رشيد مثالا واضحا لذلك، ثم اعتمد الإنسان كذلك على جلود الحيوانات وعظامها، إلى أن اخترع الفراعنة ورق البردي، ذلك النبات الذي كان ينتشر على ضفاف نهر النيل ولكن عيب هذا الورق الذي مازال يتم تصنعيه في مصر للسائحين وعليه رسوم فرعونية، أنه خشن الملمس.
وورق البردي هذا يطلق عليه باللاتينية Papyrus وهي كلمة مشتقة من الاسم الفرعوني، ثم تحورت لتصبح Paper أي أن الأصل الفرعوني مازال متداولا حتى الآن. ولم يكن الرجل الصيني تساي لون الذي توصل إلى صنع عجينة مطبوخة من لب أخشاب البامبو ومخلفات الأنسجة الحريرية وشباك الصيد يعلم أن ضرب هذا الخليط وطحنه على النار ثم تجفيفه سيصنع ثورة على وجه الأرض.
ولم يدر في خلد الصيني أن اختراعه للورق يمكن أن يخرج عن يده، ففي سنة 751 كان جيش المسلمين يحاصر مدينة سمرقند، ووقع في الأسر بعض الجنود الصينيين، وبتفتيشهم تم العثور في ملابس أحدهم على رسالة موجهة إلى أحد أصدقائه ومكتوبة على الورق الصيني. ولكن القائد العربي كان مبدعا في تفكيره فعرف سر الصنعة من الأسرى الصينيين ونقلها إلى خليفة المسلمين، وهو الأمر الذي يعد بحق نقطة تحول في تاريخ البشر على سطح الأرض.
كان علماء الإسلام يتوقون إلى نشر القرآن الكريم ليصل إلى سائر أبناء البلاد المفتوحة، ولم تكن جلود الحيوانات والسعف والعظام تصلح لذلك، لأن هذه المواد مكلفة، ولذلك تلقف المسلمون هذه الأوراق الصينية وتوصلوا إلى صناعتها باستعمال القطن بدلا من الحرير، وجمعوا مواد رخيصة موجودة في البيئة من حولهم. انفتح الباب على مصراعيه للورق على أيدي علماء العرب والمسلمين فأنشئ أول مصنع للورق في عاصمة الأمة الإسلامية وقتئذ بغداد عام 791 في عهد هارون الرشيد. وتمكن جابر بن حيان الكيميائي الشهير من أن يحسن هذه الصناعة واخترع نوعا من الورق يقاوم الحرارة وضد الحريق، وعلى هذا ازدهرت هذه الصناعة واصبحت حرفة الوراقة تطلق على صناعة الورق، ومع الوراقين ظهر الحبارون، الذين تخصصوا في صناعة الأحبار التي يتم الكتابة بها.
عمت صناعة الورق أنحاء العالم الإسلامي بل أن مدينة مثل فاس المغربية كان بها كم هائل من المصانع وصل عددها إلى أربعمائة مصنع أو طاحونة للورق وكانت تصدره للعالم الإسلامي وأوروبا، بل إن أول مصنع للورق في أوروبا أقيم في مدينة فريانو جنوب إيطاليا عام 1276 أي بعد المسلمين بأربعة قرون كاملة، والآن يمكننا أن نقول بحق أن الورق الذي يحفظ ذاكره العالم الآن اختراع صيني وطوره علماء العرب والمسلمين، وستظل قيمة الورق كما هي ذاكرة للحياة مهما تعددت الوسائل التكنولوجية في العالم.
