عجز قلمي منذ أكثر من سنتين عن الكتابة في الموت والفقد وتعثرت الكلمات في التعبير والرثاء، ليس صعبا الكتابة في أي موضوع، لكن لم أتوقع ثقل ما يكتب في هذا الشأن.. خاصة عندما تفقد أبا عظيما وبعدها بأيام تكون في موقف صعب وفجيعة بفقد زوجتك وأم أولادك الصغار، فقد كان بين وفاة والدي وبين وفاة بنت أخيه زوجتي رحمهما الله ثلاثة أسابيع فقط، توقفت حائرا كيف أكتب وماذا أكتب ولمن أكتب؟!
أنا من مات ومن مات أنا
لقي الموت كلانا مرتين
أكتب وأستحضر تلك الجلسة الحوارية بيني وبينها بعد عزاء الوالد بأيام وقبل وفاتها كلما تذكرتها عصفت بي تلك اللحظات كنت أقول لها بأن الموت دخل البيت وأخذ عموده ودخل بيننا فمن يتعظ بالموت فمن يدري من التالي فكانت هي رحمها الله، ثم قلت لها إن فقد الأب عزيز لكن فقد الأم أشد على البيت وعلى الأسرة واستذكرنا حال البيوت بعد فقد الأب والأم فكانت هي العبرة الحقيقية في بيان ذلك أن الأم فعلا هي أشد في الفقد على الأبناء والأسرة ككل والحمد لله.
وكانت في حياتك لي عظات
وأنت اليوم أوعظ منك حيا
إن الموت هو الحقيقة الكبرى وهي سنة الحياة في هذه الدنيا (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون) وإن أبلغ العظات النظر إلى الصلاة على الأموات وحضور العزاء ودفن الأموات في المقابر، فإننا في دار ليست للبقاء، أيامها مراحل، وساعاتها قلائل، والمرء لا شك عنها راحل، والموت قد يسبقه إلى العبد نذر وعلامات أو بغتة وفجأة لا تسمع لهم حسا ولا همسا، وقد قيل كفى بالتجارب تأدبا، وبتقلب الأيام عظة، وبذكر الموت زاجرا.
يا راقد الليل مسرورا بأوله
إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
الفقد والحزن شعور ثقيل وصعب على النفس، والفرح والحزن أمران فطريان متضادان خلقهما الله في وجدان الانسان يخمد أحدهما بطغيان الآخر عليه وظهوره (وأنه هو أضحك وأبكى) يقول عكرمة رحمه الله: ليس لأحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا، وقد قيل ما من مصيبة إلا ومعها أعظم منها: إن جزعت فالوزر وإن صبرت فالأجر والمقادير تجري عليك في كل الأحوال، ولا غرو أن يحزن القلب على فراق محبوبه وتدمع عينه دون جزع وأسوتنا في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: «إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزنون».
وعند المصيبة والبلاء والفقد يتبين أهمية الصبر والتحمل والثبات وأن هول الصدمة وحجم المصيبة وحراراتها التي تلتهب في القلب وتعصره لا يبردها ويهونها إلا اللجوء إلى الله والإقبال عليه بصدق والاكثار من ذكره وعبادته من دعاء وصلاة وقراءة للقرآن وقبلها التسليم التام والرضا بقضاء الله وقدره، ولا أنسى في هذا الشأن أن كل كلمة أو رسالة ووقوف حقيقي أيام العزاء وبعده من أقارب أو أصدقاء له عظيم الأثر في تقوية الروح وتطييب النفوس وتزيد من رباطة الجأش وتعين على الخروج من دائرة الحزن، يقول بعض الحكماء: من احتمل المحنة وصبر، ورضي بتدبير الله وشكر، كشف الله له منفعتها حتى يقف على المستور عنه من مصلحتها.
ختام الومضة: يجب أن نتذكر نعم الله علينا التي لا تعد ولا تحصى، وأن نحسن الظن بالله وأن عاقبة الأمور حميدة مهما كانت شديدة، وأن الحياة لا تتوقف لوفاة أحد كما يقول الأولون نحن أموات أبناء أموات، ولسان حالنا عند الفقد نتمثل بتلك الأبيات في الرثاء:
في رحمة الله لم تظلم ولم تخن
يا راحلا عن حياة البؤس والفتن
في رحمة الله أودعناك خالقنا
ربا رحيما يجازي الحسن بالحسن
في رحمة الله يا أغلى أحبتنا
لو نملك الأمر ما جئناك بالكفن
لو كان في الأمر ما يدعو لنجدتنا
كنا اجتهدنا ببذل المال والبدن
لكنه قابض الأرواح ليس لنا
في رده حيلة، يمشي على السنن
أودعتك اليوم ربا لا تضيع لنا
ودائع عنده في السر والعلن
سبحانك الله هذا دربنا وغدا
نلقى الأحبة في منأى عن الحزن
لله ما أسرع الدنيا اذا انقلبت
يوما على أهلها بالهم والمحن
يا نفس صبرا على ما كان واحتسبي
فإن ذا العرش ذو جود وذو منن
رباه فاغفر لمن تحت الثرى ولمن
وفاته بعد حسن الفعل لم تحن
mbrkwtdusari@
