بين الكلب والروبوت .. تجسيد الوفاء الرقمي وتمكين البيتكوين
في زمنٍ مضى، ليس بالبعيد ولا بالقريب، قبل أن تستحوذ التكنولوجيا الحديثة على كل شيء وتغزو الرقمنة معظم الخدمات، كان أحد المحاربين القدامى يجلس أمام تلفازه الذي بالكاد يظهر صورة واضحة، لا ينتظر شيء سوى مرور الوقت حتى يعود كلبه -أنيسه الوحيد- من رحلته اليومية.
صندوق خشبي صغير يتدلى من رقبة الكلب يحتوي على قائمة بالطلبات ومبلغ من المال، الكلب يعرف طريقه إلى متجر قريب، حيث يستقبله البائع كل يوم ويزوده بالسلع مقابل النقود، ليعود الصديق الوفي سريعًا إلى صاحبه العجوز.
ربما صادفت ذات مرة خبرًا أو مقطع فيديو على منصات التواصل الاجتماعي يبرز قصصًا مؤثرة مثل هذه عن أشخاص مسنين أو محاربين قدامى يعتمدون على كلابهم في شراء احتياجاتهم اليومية وملء فراغ الوحدة بعد التقاعد.
تلك كانت تقنية العصر آنذاك؛ بسيطة، مضمونة، وآمنة، لكن ماذا لو تغيرت القصة؟ كيف ستبدو في المستقبل القريب؟ ماذا لو استبدلنا الكلب بتقنية لا يمكن لمسها، لا يمكن رؤيتها، لكنها تعد بتغيير قواعد اللعبة وشكل الحياة كاملة؟
اليوم، في عالم البيتكوين والذكاء الاصطناعي، تتغير المهام، وتتغير العملات، والسؤال هو: هل ستظل التكنولوجيا الجديدة مثل الكلب الوفي، أم ستصبح أكثر تعقيداً وربما أكثر خطورة؟
كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي على البيتكوين؟
– قد تكون الآثار السريعة على المدى القصير غير محببة للبعض في صناعة التشفير، لكنها أيضًا تعد ببدائل مربحة للشركات العاملة في التعدين والتي انخفضت مكافآتها هذا العام مرة أخرى.
– تعمل شركات التعدين على دعم وحماية شبكة البيتكوين من خلال معالجة عملية حسابية معقدة، وتتلقى مكافآت بالعملة المشفرة نظير ذلك، وكان هذا عملاً مربحاً للغاية مع ظهور البيتكوين، ما دفع الشركات إلى زيادة قدراتها الحاسوبية لتعظيم العائدات.
– لكن في أعقاب انهيار سوق العملات المشفرة في عام 2022 أفلست العديد من الشركات العاملة في التعدين، فيما جنت الشركات التي نجت من الانهيار أرباحًا قوية في عام 2023 وأوائل عام 2024.
– لكن ظهر تحدٍ جديد في بداية الربع الثاني بسبب حدث التنصيف، والذي خفض مكافآت العاملين في تعدين البيتكوين إلى النصف، فيما كانوا يأملون في ارتفاع سعر العملة بشكل كبير كما حدث في دورات التنصيف السابقة، للتعويض عن انخفاض المكافأة.
– مع ثبات سعر البيتكوين نسبياً، تعرضت الشركات للضغط واضطرت للبحث عن طرق لتنويع أعمالها، ليأتي الذكاء الاصطناعي المتعطش للطاقة وقدرات الحوسبة ليوفر لها بديلاً آمناً ومربحاً.
– في سبتمبر، ارتفعت البيتكوين بنسبة 7%، وصعدت أسهم شركات التعدين ذات القيمة السوقية الأكبر بنسبة تتراوح بين 4% و9%، فيما شهدت شركات التعدين التي انخرطت في أعمال الذكاء الاصطناعي والحوسبة عالية الأداء مكاسب تصل إلى 25% خلال الشهر.
– الشراكة بين صناعتي الذكاء الاصطناعي وتعدين البيتكوين منطقية، نظرًا لاحتياجات كلا الجانبين، حيث تحتاج شركات الذكاء الاصطناعي إلى المساحة والقدرة الحاسوبية والوصول إلى الطاقة الرخيصة والبنية الأساسية التي تمتلكها شركات التعدين، والتي تحتاج بدورها إلى أنشطة مربحة.
– لكن على المدى الطويل قد تكون مكاسب الدمج بين هاتين التقنيتين هائلة، إذ يقول الذكاء الاصطناعي نفسه ممثلاً في تطبيق الدردشة الآلية “جيميناي” التابع لـ “جوجل”، إن تلاقي عالم البيتكوين وعالم الذكاء الاصطناعي والروبوتات يحمل في طياته الكثير من الفرص، والتحديات على حد سواء.
نقود المستقبل الذكية
– مستقبلاً، من المتوقع أن تلعب العملات المشفرة عمومًا، والبيتكوين خصوصًا، دورًا كبيرًا سواء من حيث استخدامها كأداة للدفع والتبادل التجاري أو أصل استثماري أو حتى كملاذ آمن.
– من المتوقع أن يزداد اعتماد البيتكوين كوسيلة دفع عالمية، خاصة في المعاملات عبر الحدود، نظرًا لسرعتها وتكلفتها المنخفضة، وقد يزداد الطلب عليها كأداة للتحوط ضد التضخم، خاصة مع زيادة معدلات الطباعة النقود في العديد من الدول، وفقاً لـ “جيميناي”.
– من جانبه يقول المستثمر والمدير التنفيذي التقني السابق في بورصة “كوين باس”، “بالاجي سرينيفاسان”، في منشور تضمن رؤيته للعملات المشفرة عبر “إكس” في يونيو، إن هذه الأصول ستلعب “دورًا محوريًا” في عصر يهيمن عليه الذكاء الاصطناعي والروبوتات.
– ذكر “سرينيفاسان” في تغريدته أن “المال بعد الذكاء الاصطناعي سيكون العملات المشفرة”، والتي ستصبح بمثابة العمود الفقري لهذه التقنية بدورها، مضيفاً أن هذه التغيرات ستحدث تغيرًا جذريًا في فهم واستخدام المال.
– في المستقبل عندما يحقق الذكاء الاصطناعي والروبوتات الوفرة، ستكون العملات المشفرة ضرورية بسبب ندرتها المتأصلة، وستكون هذه الندرة حاسمة في التمييز بين الأنشطة البشرية والأنشطة الآلية، خاصة عندما يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي محاكاة الأفعال البشرية بسهولة، على حد قول “سرينيفاسان”.
– في حين أن المستهلكين لن يكونوا بحاجة للدفع مقابل خدمات الروبوتات التي يملكونها، فإنهم سيظلون بحاجة لدفع ثمن الخدمات التي تقدمها الروبوتات المملوكة للآخرين، ما يجعل العملات المشفرة وسيلة للتبادل.
– علاوة على ذلك، فإن التحكم في هذه الآلات المتقدمة سيعتمد على مفاتيح رقمية آمنة، وقال “سرينيفاسان” إن تقنيات “ويب 3” مثل شبكتي البيتكوين والإثيريوم، توفر الأمان اللازم لإدارة هذه المفاتيح بشكل فعال.
– إجمالاً، يرى “سرينيفاسان” مستقبلًا لا تكون العملات المشفرة فيه مجرد أداة مالية، بل عنصرًا أساسيًا في المعاملات الاقتصادية، ويشير إلى أنه مع استمرار نمو استخدامات الذكاء الاصطناعي والروبوتات، ستزداد الحاجة إلى أشكال آمنة ونادرة ومتعددة الاستخدامات من العملات مثل العملات المشفرة.
التأثير الاستثماري
– أسواق العملات المشفرة معقدة، وتفرض تحديات فريدة على المستثمرين، ومع ذلك، يقدم الذكاء الاصطناعي حلولاً مبتكرة تعزز ثقة المتداولين، مثل تحليل مجموعات البيانات الضخمة باستخدام التعلم الآلي لتحليل وتحديد الأفكار القيمة، ما يساعد على اتخاذ قرارات أكثر حكمة بشكل أسرع.
– تمكن أيضًا قدرات الذكاء الاصطناعي المستثمرين من المراقبة في الوقت الفعلي لاتخاذ القرارات السريعة بناءً على تحليل البيانات المستمر من مصادر مختلفة، وتمكين المتداولين من اغتنام الفرص بسرعة، وفقًا لتقرير لشركة “إيم ريسيرش- Aimresearch” للأبحاث.
– كما تساعد في تقييم المخاطر وإدارة المحفظة وبالتالي تعظيم العائدات والحد من الخسائر المحتملة، فيما تؤدي أتمتة استراتيجيات التداول لتحقيق الكفاءة، حيث تعمل روبوتات التداول التي يقودها الذكاء الاصطناعي على تبسيط عمليات التداول وتنفيذ الاستراتيجيات بدقة والتكيف مع تغييرات السوق.
– من بين مزايا الذكاء الاصطناعي الأخرى التي تسهم في تطور صناعة البيتكوين والعملات المشفرة، هي قدرته على تعزيز الأمان واكتشاف الاحتيال بشكل كبير، ورصد الأنشطة الاحتيالية والتخفيف منها من خلال التعرف على الأنماط في بيانات المعاملات.
– حتى الآن، حققت البيتكوين بالفعل أكثر مما توقعه الكثيرون ممن حذروا مرارًا وتكرارًا من فقاعة الأصول المشفرة والاحتيال، ورغم ذلك ارتفعت العملة بشكل هائل منذ إطلاقها في عام 2009، ومع ذلك، يرى مراقبون أنه ما زال أمامها الكثير لتقدمه.
– يعتقد “إيف هولنشتاين” مدير عمليات الإيداع والتحصيص لدى “بيتكوين سويس” لتداول العملات المشفرة أن البيتكوين ستكون بالنسبة للعديد من الناس بديلاً وخيارًا لـ “تداول القيمة”، وعدم الاضطرار إلى استخدام النظام المصرفي التقليدي، خاصة لتفادي الضغوط الضريبية.
– فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، قال “هولنشتاين” إنه يرى إمكانات في أتمتة العمليات حيث لا تتواصل الآلات مع بعضها البعض فحسب، بل تقوم أيضًا بإجراء مدفوعات مقابل خدمات معينة.
– مع ذلك يرى أنه من المهم تقييم مخاطر الذكاء الاصطناعي العام، حيث قال: “إذا كانت هذه الأنظمة تتمتع بمستوى ذكاء البشر أو أكثر ولم نسيطر عليها، فقد يكون هذا خطيرًا للغاية”.
– ستكون البيتكوين محل اهتمام أكبر في المستقبل بفضل اعتبارها من قبل الكثيرين “أداة استثمار طويل الأجل”، خاصة مع تزايد اهتمام المؤسسات الكبرى بها، كما أنها تتميز بأنها أداة تمويل “لامركزي”، ما يفتح لها آفاقاً جديدة للاستثمار والإقراض، وفقاً لتوقعات “جيميناي”.
ماذا يتوقع الذكاء الاصطناعي نفسه؟
– عندما طلبنا من “شات جي بي تي” تحديد أسباب توقعاته لأن تصبح البيتكوين أداة الدفع والاستثمار المفضلة في عصر الذكاء الاصطناعي والروبوتات، قال إن هناك 6 أسباب ترجح هذا الاحتمال والتي تتفق بشكل كبير مع تقديرات المحللين.
– أول هذه الأسباب هو السرعة والكفاءة، وثانيًا، النطاق العالمي وعدم التبعية للنظم التقليدية، وثالثًا، الأمان (الذي سيعززه الذكاء الاصطناعي مستقبلاً)، ورابعًا، قدرة البيتكوين الكبيرة على التكيف مع الأنظمة الرقمية المتقدمة، وخامسًا، تجنب آثار التضخم والرقابة الحكومية، وأخيرًا، ميزة التداول الذكي والتحليل الآلي.
– في رواية خيالية عن هذا التطور في المستقبل، يقول “شات جي بي تي”: “في عام 2045، أصبح ’شريف‘ واحدًا من أشهر المستثمرين في سوق البيتكوين، بعدما قرر شراء روبوت ذكي يُدعى ’بِتا‘ لمساعدته في إدارة محفظته الرقمية”.
– كان “بِتا” بارعًا في كل شيء: “تحليل البيانات، توقُّع الأسعار، وحتى شراء البيتزا باستخدام البيتكوين، حتى أن ’شريف‘ كان يطلب من ’بِتا‘ إرسال البيتكوين للمتجر لشراء بعض الطلبات، والتي كانت تصل إلى شرفة منزله مباشرة باستخدام الدرون”.
– لم يختلف الموقف كثيرًا عن قصة الكلب، لكن بدلًا من الصندوق على رقبة الكلب، كان “بِتا” يحمل محفظة رقمية متصلة بالشبكة، وبدلاً من البائع الذي يعرف الكلب وصاحبه، أصبح هناك المتجر الرقمي بالكامل الذي يتلقى الأوامر ويشحنها مباشرة عبر الدرون، وذلك بتنسيق كامل من الذكاء الاصطناعي.
– بينما كان “بِتا” ينهي المشتريات ويستلم الشحنة، قال “شريف” ممازحًا صديقه الذي كان يسهر معه افتراضيًا عن طريق تقنية الهلوجرام: “أعتقد أننا نتطور من الكلاب إلى الروبوتات، لكن الهدف واحد، الراحة والأمان”.
– عندما عاد “بِتا” بالمشتريات، كان يحمل معها نصيحة استثمارية بفضل تحليله النشط للبيانات، فأخبر “شريف”: “سيدي، سعر البيتكوين سيرتفع خلال الساعات القادمة بنسبة 10%، هل أبيع بعض البيتزا وأشتري بيتكوين”، ضحك الرجل قائلاً: “هذا هو المستقبل؛ حتى البيتزا يمكن تحويلها لاستثمار رقمي”.
– في المثال الأخير، إسقاط من “شات جي بي تي” على الواقعة الشهيرة المعروفة باسم “يوم بيتزا البيتكوين” عندما استخدم أحد الأشخاص 10 آلاف بيتكوين لشراء البيتزا في عام 2010، وهو ما كان ليساوي ثروة طائلة الآن، لكنه لم يدرك حينها الإمكانات الكامنة لها.
– يختتم الذكاء الاصطناعي قصته عن المستقبل بالقول: “بينما كانت الروبوتات تسير في الشوارع بدلاً من الكلاب، تزايد إقبال المستثمرين على البيتكوين، حيث أصبحت وسيلة الدفع الوحيدة التي تواكب سرعة الذكاء الاصطناعي في تحليل الأسواق”.
– على أي حال، رغم هذه الإمكانات الواعدة لاتحاد التقنيتين معًا، من المستبعد (من وجهة نظر البشر والذكاء الاصطناعي) أن تحل البيتكوين محل الدولار كعملة احتياط رئيسية أو حتى بدلًا من أي من العملات التقليدية، لأسباب منها تقلب أسعارها واستهلاكها العالي للطاقة وغياب الرقابة والمنافسة مع عملات أخرى واللوائح الحكومية.
اسبتدال الروح بالآلة: تساؤلات ومخاوف
– إن مزايا مثل الأمان والوصول العالمي وقدرتها على التكامل مع الذكاء الاصطناعي تعد باستخدامات متعددة واعتماد أكبر على العملة المشفرة، ما يؤهلها للعب دور مركزي في المستقبل، غير أن السياسات الحكومية وتطور التكنولوجيا قد تقلب الأمور سريعًا لصالح أو حتى ضد البيتكوين.
– في عالمٍ يتغير بسرعة، حيث تتحول العملات الورقية إلى شفرات رقمية، وتستبدل الرفقة الحيوانية بالتطبيقات الذكية، تبرز قصة الكلب الوفي كمثالٍ حيٍ للتقنية القديمة التي كانت تحمل طابع الوفاء والبساطة.
– ذلك الكلب الذي يعرف طريقه إلى المتجر ويعود بالأغراض لصاحبه، كان يمثل الثقة والأمان، ولكن، في عصر الذكاء الاصطناعي، حيث تتحول المهام إلى خوارزميات، ورحلات الكلب إلى عمليات رقمية غير مرئية، يبقى السؤال: هل يمكن للتكنولوجيا الجديدة، رغم تعقيداتها، أن تحل محل الصديق الوفي؟
– أم أن هذا التحول يحمل في طياته مخاطرة بفقدان الأمان الذي كان يجلبه لنا الكلب؟ في هذا العالم، قد تبدو التكنولوجيا براقة، لكنها قد تفتقد الروح التي تمنحنا الاطمئنان.
– إنه أمر جدير بالانتباه، وختامًا يبقى السؤال الأهم؛ في عصر يهيمن فيه الذكاء الاصطناعي على كل شيء حتى “التفكير الحكيم” وإدارة المحافظ المالية، المكونة على الأرجح من عملة لا مركزية غامضة، هل تحسن الآلة إدارة حياة البشر أم تتركهم بلا سيطرة حقيقية على شؤونهم؟