✍ حازم دياب يكتب: في “الفالنتين”.. اعترافات عن الحب والصداقة
القاهرة – النخبة:
من دفتر سيرة ذاتية لشاب عابر وقع في غرام صاحبته..
١
“كتاب السيرة الذاتية الجيد لا بد أن يحتوي على فضيحة ما“
الكاتب الإنجليزي جورج أورويل
٢
ما يلي إقرار بجزء من ذاكرة يخشى صاحبها أن تضيع في طي نسيان اللهاث وراء حياته، معتقدًا أن “الحكاية علامة شفاء الراوي”، وهو يريد الاستشفاء لكي يسترد حياته ويحافظ على ذاكرته. وأن يفي بجميل لفتاة عاشت أكثر من حياة بفعل صاحبها.
٣
المكان: غرفة صغيرة في محافظة المنيا تحوي شابا تخرّج لتوه في كلية تفرّخ شبابًا وفتيات للعمل بابتسامات زائفة في البنوك لمنح النقود والقروض واليأس.
الزمان: نهايات العام ٢٠٠٨. هناك شاب اختار أن يقرأ الكتب ويشاهد الأفلام ويسعى إلى نسيان واستبدال كتب المحاسبة والتسويق والائتمان لملء الدماغ بروايات نجيب محفوظ وقصص يوسف إدريس ونصائح يحيى حقي والنهل من عذوبة إبراهيم أصلان. كان يلتهم الكتب والأفلام. يسافر ليشتري القصص ويحضر الندوات ويسمع للأدباء. يقضي ساعات يشاهد برامج أدبية قديمة. يقرأ في معارك طه حسين وحيدر حيدر، ويردد الدواوين بصوت عال لتستقر الموسيقى في الوجدان، وينهل من كل سيرة ذاتية تقع تحت يديه لعله يجد في حياة أحدهم ما ينفعه أو يصقله.
في ليلة واحدة من ليالي حظر التجول إبان ثورة يناير قرأ ثلاثة كتب وفيلمين بلا نوم. كان يشعر أن دماغه خاوية العروش، تحتاج لمكونات جديدة يعثر فيها على نفسه. حين كان ينهي كتابا مسليا أو فيلما يمنحه إلهاما يشعر أن روحًا جديدة بدأت في التكوّن، وانطواءً اجتماعيًا أنهى درجات اكتماله.
كاتب هذه السطور في يوم تعرّف عبر قريبه على موقع إلكتروني يدُعى “بص وطل” يتيح الكتابة عبر الإنترنت في مجالات مختلفة، وكان للموقع صيت في وقت لم يكن لوسائل التواصل الاجتماعي فيه حيز يذكر في الإنترنت. كان هناك انتشار هائل لمواقع شبابية ومنتديات أدبية فرزت الآن جيلا من أهم الكّتاب على الساحة. كان يكتب في “بص وطل” د. أحمد خالد توفيق ونبيل فاروق وكثيرون ممن كان مجرّد رؤيتهم في معرض الكتاب أو شاشة التلفاز حلمًا بعيد المنال. بعد عشرات المحاولات الفاشلة بدأ الموقع في استقبال أخبار منّي. كان رؤية الاسم: حازم دياب على الشاشة يصل بي للاكتمال الذي كنت أصبو إليه. أنا أريد أن أكمل بهذا المجال ولن أرتدي بذلة عنق يوميا موظفًا.
كنت أكتب في باب الثقافة فقط. وحين قبضت ٤٠ جنيها على أول خبر كتبته عن إصدار كتاب “فندق الثعالب” للدكتور محمد المخزنجي شعرت أن الدنيا طوع يديّ وأنني لن أعمل بالبنك أبدا. تطوّر الأمر وأجريت حوارات وعروض كتب. أنت ترسل الاقتراح لإدارة الموقع، ثم يخبرك: “هيا ابدأ. ليس هناك من أحد يعمل على فكرتك“.
في مساء ليلة أرسلت لي فتاة تُدعى هبة خميس عبر فيس بوك وأصبح الزمان الآن نهايات ٢٠٠٩، تقول لي:
“هو أنت بقى حازم دياب اللي كل ما أبعت موضوع يقولوا لي شغال عليه. مش عارفة أعمل مواضيع”. ربما كانت تلك هي بداية الشرارة التي تحاول أن تظل متقدة حتى الآن.
٤
المكان: مطعم بيتزا شهير بحي العجوزة الهادئ. حي تحبه وقد يمنحك نذرًا من الحب. رائحته ذكية، شوارعه الجانبية تشي بالونس الذي لا تجده مع البشر وعشوائيته تهدر بأطياف من الزمن الجميل. حي مع قلائل لم يصبهم بعد انتهاكات العاصمة الجغرافية.
الأشخاص: فتى في مقتبل العشرينات من عمره وفتاة تسبقه ذلك بعام ونصف العام من العمر، والجمال والحيرة الدائمة من كل مستجد يحدث في عالمنا الصغير وعالمها الرحب.
الزمان: شهر الصيام، صيف العام الذي سقط فيه نظام ظل ثلاثين رمضانَ يغيّر فقط من جمل الخطابات بما يوائم المستجد من البشر والحجر.
سبب اللقاء الظاهري: شاب اشترى نسخا من مجموعة قصصية كسبت لتوها جائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة. اسم المجموعة “من نافذة تطل على الميدان”. وقد اشترى الشاب القصص ليبدي شهامة طفولية للفتاة التي حضرت لتكريمها من الإسكندرية وتجد صعوبة في التنفس في القاهرة، فانبرى الشاب لمساعدتها، بل ودعوتها لمطعم بيتزا كانت تسمع به ولم تتخيّل أن نلتقي به للمرة الأولى بمفردنا. من قال إن المشاعر في بداية العشرينات يغلب عليها الحقيقة؟.. حين جلس معها أحس بأن قلبها معلّق. كان يراود نفسه عن الحب. يريد خوض التجربة لعله يصل أو يتعلّم. كانت تتكلم عن شاب ما، عن علاقات مبتورة ورومانسية نسعى إلى أن تتملكنا في هذا الوقت.
انتهى اللقاء بشكل رسمي عزز رسميته الشاب بأن ترك الفتاة ترحل لحفل توقيعها وحيدة، وذهب هو إلى الاستاد لمشاهدة مباراة للأهلي. وهو يركبها التاكسي إكمالا لمسلسل الرجولة المراهقة، لمح في عينيها شرودًا وتعلّقًا لم يفهمه. افترقت مصائرهما، لكن الصداقة عبر الإنترنت استمرت عبر تعليقات ساخرة، ولقاءات عابرة في ندوات. كان هناك ذلك الحبل الذي لم ينقطع بين طرفين تقابلا روحيًا للمرة الأولى على رائحة عجين البيتزا.
سبب اللقاء الحقيقي: شاب جاء من صعيد مصر يبحث عن الأحلام ويحث خطى الانفصال عن أهله لعله يصل للمراد، وينجح في الانفصال، ويصل إلى حب يناسب مرحلة المراهقة العشرينية التي تجمعه بتلك الفتاة القادمة من مدينة النور المصرية، الإسكندرية، التي يصفها نجيب محفوظ قائلا: “الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع“.
٥
المكان: القاهرة. بدأت الانخراط في العمل في الصحافة، تلك المهنة التي تسحب صاحبها إلى براثن التفكير في العمل وحسب.
الزمان: ما بعد العام ٢٠١٢ حيث انفتح المجال الإعلامي للحد الذي أغلقه بعد ذلك. كنت لا أصدق اسمي موجود مطبوع على جريدة. لم أهتم بالأمر بعد ذلك بأيام، ككل شيء يبدو بفورة من الحماسة وينتهي بتعاسة الملل من تكرار الأشياء. هل هناك أبشع من الملل؟ من ممارسة الأمر نفسه بشكل يومي؟.. هذه الفكرة توطدت لديّ في الحب. قلت لتكن هي الصداقة فحسب مع الجنس الآخر. لا لن أحاول أن أجعل القلب يخفق أو يسري فيه ذلك التيار الذي يقودك ولا تستطيع تملكه أو السيطرة عليه. لكن ثنائية المخيّر والمسيّر تبرز من جديد وتجد مصيرك يتعلّق بفتاة وتجد كل ما خططت له يتهدّم على جدار كلمة حيرّت كل مخلوق: الحب. تلك الكلمة التي لم يجدوها كافية فنعتوا بعضها بالأول وتارة بالعذري وأخرى بالأفلاطوني، وكأنه سلعة متنوعة المكونات. انخرطت في تلك العلاقة معتبرا إياي “شاب ملو هدومه” يخوض النوع المسمى بالحب الأول بكل مشتملاته، جامعا في يدي مرتبًا لا يكفي سوى كشري للغداء و”طعمية” للفطار لكنه كان كافيا لكيلا أعتمد إلا على معونات الأم المادية السرية، التي تستمر مع الرجل حتى يموت. الأم بنك لا ينتظر فوائدَ للقروض.
٦
المكان: القاهرة. ككل حلم أول حب لك في الغالب يفشل ثم تتعلّم من التجربة. لكن هذه جملة مكوّنة من كلمات اختصرت بها ربما سنة من مشاعر وأحداثاً ودموعًا وإحساسًا بانهيار العالم. قسوة الكلمات قوية كحلاوتها.
الزمان: يوليو ٢٠١٢. قررت الاستقالة من عملي. كتبت على “فيس بوك”: آن لحازم أن يمد قدميه. الانفصال في الحب يمنحك شعورًا بحرية وقتية مثلما يمنحك شعورًا بانتهاء العالم وأنّك شخص فاشل في كل شيء. في أوقات تفسّخ العلاقة أو انتهاء علاقتك بعملك، تنظر لنفسك قائلاً: حسنا أنا على حافة الضياع. تعيش حالة لا بأس بها كأنك واحد من أبطال الأفلام الذين ضغط عليهم العالم ولم ينظر بعين القسوة إلا إليه فقط. تظن أنّك محور الكون، وأنت في الحقيقة لست إلا واحدًا من مليارات خاضوا مسارات حياتهم بالشكل الذي لم يخططوا له.
لكن من قال إن التخطيط ورسم المستقبل بالضرورة خير؟. يقول الموروث الديني: “وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُم”. يذكرني موقفي بمصير صرصار. وهي مسرحية قصيرة لتوفيق الحكيم تحكي بسخريته التي يدمج فيها الخيال بالواقع عما يشبه المملكة في صورة صرصار وزوجته. وقع هو في براثن “البانيو” ولا يستطيع الخروج. يقول توفيق الحكيم: “كل كفاح بشري عديم الجدوى أمام تلك القوة التي لا قبل للإنسان بها.. ومع ذلك يكافح.. وهنا مأساة الإنسان وعظمته”. يخامرني أنني ذلك الصرصار لكن واقعا في بلاعة سحيقة لا.
عدت لمنزلي مرة أخرى في الصعيد وأنا أخبرهم: لقد أصبحت بلا عمل. كان الوقت رمضانَ. لم أخبرهم عن فشلي في الحب أيضًا. أحيانا لا يحب المرء أن يظهر بثوب الفشل الكامل. قليل من الكتمان يحفظ للصرصار كرامته.
بينما أحاول تزجية الوقت قبل مدفع إفطار المغرب بساعة، وجدت على الهاتف اسمًا يدق. كانت هبة خميس، واستمرت المكالمة حتى برد أكلي الساخن المنتظر لصائم لا يطيق الانتظار.
٧
“استنى هدية ربنا”. بهذه الكلمات باغتتني هبة وأنا أحكي لها عن فشلي في العمل، وتلميحي لها بفشلي في الحب أيضا. هل قرأت كتب تنمية بشرية كافية تقول إن هناك نقطة تحوّل في الحياة تحدث في لحظة يختارها الخالق بعناية؟.. كانت هذه المكالمة نقطة التحوّل في ذاكرة جديدة بدأت في التكوّن عام ٢٠١٢. كانت الصداقة مع الفتاة هبة تراجعت بحكم انشغالي السابق. بترت هي للتو علاقة كانت على وشك تكملتها. فهمت ذلك فورا من لهجتها. هل أصبحت خبرة؟. لم تكن المكالمة نقطة تحوّل بأن أعادت لحظة المراهقة القديمة. لكنّ لسؤالها: “بما إنّك عاطل، ما تيجي إسكندرية يوم نغيّر جو. صدقني إسكندرية فيها روح تانية“.
أخبرتها أن ذلك صعب وأن عليّ البحث عن عمل. حدثتني كصديقة وأنا فعلت. سألتها: “يعني ايه استنى هدية ربنا؟”. أخبرتني أنّها بعد كل مأساة ما تكابدها، يمنحها الله شيئا كبيرا في المقابل. عملًا جديدًا. قصة جديدة. فكرة رواية. صحبة. جائزة أدبية. سكونًا نفسيًا. أدركت في المكالمة أن الشخص الذي اعتقدت أنه مرتبط بها عاطفيا قد انفصلا. لا يخونني حدسي في الأغلب. في نهاية المكالمة قلت لنفسي: قلبين محطمين حديثا. ممكن؟.
ثنائية الصداقة والحب ثنائية محيرّة. لست من المؤمنين بتحوّل الصداقة إلى حب. الصداقة صداقة والحب حب. لم أعتبر ما حدث مع الفتاة هبة خميس في ليلة البيتزا إلا نزوة مراهقة من شاب حبس نفسه في قمقم بإرادته الحرة. ظل طوال سنوات يخجل من النظر لعين فتاة أو مد يده إليها بالسلام. اكتشف صديقاته في الجامعة في الربع الأخير من عامه الأخير بسبب التنظيم لحفل التخرّج. لذا فالتحوّل من خانة الصداقة مع فتاة لم يجمع بيننا إلا أحاديث الأفلام والكتب وأمور الحياة كان بالنسبة لي مستحيلا. أكلت الإفطار باردا وأنا أفكّر في السفر للإسكندرية واستعادة صداقة قديمة كان لها في القلب مستقر ومستودع.
٨
المكان: الإسكندرية. تلك المدينة التي يحبّها الصعايدة. حين تُذكر لفظة بحر أمامهم لا يرونه إلا من خلالها. ولا يعترفون بأن الأنفاق في طرقها وسيلة لعبور الطريق. ذهبت إلى مكان عملها، وجدتها في انتظاري ترتدي فستانا مبهرج الألوان. والرجل يا عزيزي عادة ما يضعف للوهلة الأولى حين يشاهد فستانا جميلا ووجها صافيا وعينا يتغيّر لونها مع تغيّر الظل والشمس. نظرت إلى هبة للمرة الأولى كفتاة قد أقع في حبها وليست كصديقة. حملت لها هدية بسيطة منحتها إياها زادت من خجلها. كنت بالنسبة إليها صديقًا مثل كثيرين يصاحبوننا ويتسكعون معنا في الطرقات ويحضرون الحفلات والندوات التي انتشرت مع حراك ثقافي في تلك الآونة. يذهب الناس إليها لكي تعرّفهم على “زخانيق” الإسكندرية التي لا يعرفها القاهريون. يذهب القاهريون إلى الأماكن المنتشرة عبر الإنترنت وليس إلى البلد الحقيقي الذي يعرفه أهله. أخبرتها أنني عدت للعمل بشكل أفضل مما سبق، وأن الهدية ربما بالفعل في الطريق.
الزمان: ٢٥ أغسطس ٢٠١٢. ربما لتكوّن جبهة دفاع أنثوي طبيعي لأي فتاة مصرية أخبرتني أن كل شيء سيكون بالنصف في هذه التمشية. النظام الإنجليزي كما نسميه. هل يفعل الإنجليز ذلك فعلا؟. يدفع الزوج الأسكتلندي ثمن زجاجة المياه المعدنية لو قام بفتحها مثلا. المهم أننا انطلقنا. تحدثنا في كل شيء. أخبرتها بما حدث لي بحذافيره. حكيت لها ما لم أحكه لأحد. سيطر عليّ شعور أنا الكتوم أنني أريد أن أفتح مساحة ذكريات جديدة. كانت تسمع، وبدأت هي الأخرى بالحكي. هل يمنح الحكي القلب سطوة؟.
شعرت مرة أخرى بتلك الدقة، لكن هذه المرة لم تكن مراهقة. طردتها من قلبي. نحن الآن قلبان محطمان. الوقت ليس مناسبًا للحب. الوقت مناسب للأكل. أخبرتني أن الكبدة هي الحل الأنسب. فيما بعد عرفت أنّها اختارت الكبدة بالذات لرخص السعر ولكي تشارك الحساب. أبلغتها بالرفض وأنني صعيدي لا أقبل أن تدفع لي فتاة. وأنني أرغب في تناول البيتزا. لماذا فعلت ذلك؟ لا تسألني. إنه القدر المكتوب.
سألتني في وجل: “عندك مانع تاكل في أول مطعم بيتزا في مصر، بس بيقدّم مشروبات روحية؟“.
مازالت كفتاة تعيد بناء السور مع شخص تخشى أن يتجاوز حدوده. أرد: “إحنا ناكل بيتزا ونشوف الناس بتشرب روحية”. كان مطعما إيطاليا يدُعى تشي جابي، وكانت أفضل بيتزا تناولتها في حياتي، وكان المطعم الذي احتضننا بعد ذلك عشرات المرات حتى أصبح عاملوه يحفظوننا عن ظهر قلب.
في تلك الليلة منحتها كتابًا هدية كان بحوزتي، وهي التي تعمل في متجر للكتب. كان الكتاب رواية لكاتب وشاعر سكندري كبير هو علاء خالد أصبحنا نقابله صدفة كثيرا في تمشيات “زخانيق هبة”. كانت رواية تحمل اسم “ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان لآخر”. رواية عن إسكندرية هبة التي تملأ روحها.
تحدثت الرواية بالمناسبة عن المطعم وتاريخه ولم تكن تعلم هي ذلك. لكن الأهم كانت جملة أساسية تُبنى عليها الرواية تقول: “الحكاية علامة شفاء الراوي“.
٩
المكان: سطح فندق سيسل بالإسكندرية مطعم صيني.
الزمان: ٢١ سبتمبر ٢٠١٢. يجمعني بهبة لقاء، يبدو عليها قلق تطوّر العلاقة السريع. الفتاة تخشى اقتحام الفتى دون أن تؤمن مسؤوليته تجاه هذه العلاقة. كنت أحب ما جمعنا ما بعد محادثة إفطار رمضان البارد ولقاء تشي جابي الساخن.
أحسست أن هذه الفتاة تدخل حياتي “كالبيض في البسطرمة”. كنا نتحدث بالساعات يوميا في كل شيء. كانت الثورة تأكل من أرواحنا، وكنا نبني حوائط مقاومة واهية. في لحظة أدركنا معا أنه لا يمكن لفتى أن يوقظ فتاة من نومها إلا إن كان يحبها. صوت النعاس وفكرة الإيقاظ نفسها لا تنطبق إلا على المحبين. على الأقل ربما نقول لأنفسنا: نحن ناضجون بما يكفي. ما رأيك بالبدء في علاقة نختبر فيها هل فعلا سنكمل حياتنا معا، أم يكون الفراق الأخير.
اختارت هبة مكانا ساحرا منتظرة أن أعترف لها بتحوّل علاقتنا من الصداقة إلى الحب، لكن ربما نسيت أن التميمة بيتزا وليست سبرينج رولز بالخضروات وموز مقلي بالعسل.
هل يحدد الطعام قراراتنا في بعض الأحيان؟. صمت تماما رغم سحر الأجواء. أنت تنظر إلى الإسكندرية من علٍ، أمامك فتاة غسلت روحك من كل أحزان الماضي بمهارة سريعة لا يمكن أن تُوجد في فيلم أو رواية. ننظر إلى حياتنا طوال الوقت على أنها مشهد من فيلم. كان الكلام مقتضبا من قبلي. أحسست بيأس أصابها وإلحاح منها في العودة لبيتها لشعورها بوعكة صحية. غادرت أنا للقاهرة.
في الأيام التالية اختلفت المعاملة. ربما شعرت هبة فيّ مراهق لم يستطع تحمّل المسؤولية. لا أعرف حتى الآن سبباً حقيقياً لما فعلت. هل هو خوف من البدء في تجربة ثانية بهذه السرعة؟.. هل هو الهاجس الأكبر لكلينا: الملل. لأيام لم نعد نتواصل كما سبق. وأصبحت لا أركز في العمل، ولا يشغلني سوى التفكير والتفكير. وقفت للحظة وسألت نفسي: ماذا لو مضيت في حياتي بدونها؟.. هل ستكون الحياة أفضل؟
١٠
المكان: شاشة الكمبيوتر- الماسنجر. رسالة تحمل أغنية “تتجوزيني؟”. ممهورة بكلمة واحدة. هذه الأغنية ليست إهداء. هذا طلب رسمي.
الزمان: ٢٤ أكتوبر ٢٠١٢. هبة ترد: “أنا وشّى أحمر من الدم. لازم أدخل أوضتي عشان أهلي مياخدوش بالهم من الارتباك. بس صحيح. أنا مش عايزاك تقولي تتجوزني.. أنا عايزاك تقولي إنّك بتحبني. الحب أهم من الزواج“.
١١
المكان: سطح منزلي في الصعيد. أخبرها: “بحبّك. وعايز أكمّل عمري معاك“.
الزمان ٢٥ آكتوبر ٢٠١٢. يقول الكاتب الياباني هاروكي موراكامي، إن الإنسان يظل نصف، حتى يعثر على حبيبته التي يكتمل بها.
إلى هبة: رجاءً اتركي نورك ينساب إلى داخل روحي، يسكب عليها من الجمال، ويقضي على شعورها بالغربة، ويمنحها الإحساس بالحب، ويهبها إدراك جمال الأشياء، ويوطئ للبهجة أن تغمرني. اغسلي بعطرك النافذ كل ما فات، جرديه من المرارة، وانفي عنه الخيبة، وهيئي للحياة الأسباب التي من أجلها، يُطلب العيش، كأول الحب، ووسطه ومداه اللا نهائي، كالاعترافات التي تطهر من سطوة الحكايات، كالمزاح الذي يلعب دور التوابل في الطعام، بها تستقيم الحياة، ويشعر بحلاوة المذاق، كجلسات الحديث التي لا تنضب، وسحر اللقاء الذي يطول انتظاره أو يقصر.
١٢
المكان: منزل هبة الكائن في شارع ١٥ بسيدي بشر قبلي. أجلس رجلًا حقيقيًا ليس مراهقًا يأكل البيتزا أمام حم، يستمع إلى شاب جاء من أقصى الصعيد يطلب يد ابنته. أحس فيّ القبول، وكانت هبة قد منحتهم خلفية من هذا الشخص الذي يريد أن يوحّد بين مينا الصعيد والإسكندر الأكبر. اختلاف الثقافات كان باديا في علاقتنا. والدتي بعد أن قرأنا الفاتحة تمهيدا لخطبة وزواج، مالت عليّ تحذرني في أذني قائلة: “خد بالك دي عمتها بتقول أحيه”. ابتسمت في سري وأنا أتذكّر كم مائة من المرات تردد هبة هذه الكلمة في كل ليلة.
الزمان: ١٨ إبريل ٢٠١٣. يتطوّر الحب بشكل مذهل. أعطينا لأنفسنا فرصة منذ الخامس والعشرين من أكتوبر التاريخ الأهم في حياتنا أن نمنح أنفسنا الفرصة. لو ابتعدنا فهو القدر ونحن غير مناسبين، والنضج طالنا بما يكفي لنكمل حياتنا كأصدقاء لن يأكلوا البيتزا برفقة بعضهما الآخر مرة أخرى. ولو اقتربنا فهي العصمة الأبدية وليكن الملل هو عدونا الذي سنحاول القضاء عليه بالحب والتجديد وبناء أسوار حولنا. بالأحرى يكون الكون كله نحن وحسب، وكنّا قد اتفقنا على عدم الخلفة نوعًا من الرغبة في الاستمتاع بقدر أكبر في الحياة وحدنا.
١٣
من تدوينة لهبة خميس في 23 مايو 2013
“في بداية علاقتنا أخبرتك أنك كنت كالقشة التي علقت عليها دنياي.
كنت مخطئة بعض الشيء لأنك لم تكن كالقشة فقط.
أنت مددت يديك وأمسكتني بأكملي لتشدني للحياة.
أصف أحياناً حبي للحياة على أنه الرغبة العنيفة في الطعام والنوم،
ومنذ عرفتك لم أتوقف عن فعل الاثنين“.
١٤
المكان: نادي التطبيقيين على الشاطئ
لا أعرف من هم التطبيقيون. المهم أنّه نادٍ على البحر يحوي بداخله فتاة اسمها هبة ترتدي فستان خطوبة ورديًا. وفتى يُدعى حازم يرتدي بذلة ورابطة عنق بنفس لون الفستان، لأن هذا ما جرى عليه الأمر.
الزمان: ٢٣ يونيو ٢٠١٣
احتفال بخطوبة على أنغام الشيخ إمام وأهازيج أغاني الأهلي وبعض الأغاني الراقصة لزوم المناسبة. دبلة ذهبية في يد الفتاة عليها زهرة لوتس مكتوبٌ عليها بخط عربي أنيق: “إنت كل كلي”، ودبلة أخرى فضية يرتديها الشاب عليها النصف الآخر لزهرة اللوتس ممهور عليها بنفس الخط: “فكن لي”. يحضر ابن عربي في أصابعنا، ونحاول بهذه العادة أن نرتبط إلى الأبد.
١٥
من تدوينة لهبة خميس بتاريخ 7 أغسطس 2013:
“رغم إني بحس إني عجوزة أوقات كتيرة بس إنت بتصحي الطفل اللي بيتنطط جوّايا، نفسي في مقرمشات بالجبنة: حاضر.. نفسي في شوكولاتة بالفراولة: حاضر. نفسي أفطر من ماك: حاضر.
رغم إن كل اصحابي كانوا بيزهقوا مني لما بقلهم رغباتي المفاجئة زي العيال، إنت الوحيد اللي مقلتليش أبطل شغل العيال ده وأبطل طلبات وبما إنك جبتلي طقم العيد، فأنا عاوزة باليرينا زرقا عليها ترتر وفيها فيونكة“.
١٦
“غفوت بالأمس، دقائق ثلاثًا لا أكثر، كانت إغماءة ولم يكن غفواً عادياً، فقد انفصلت بسكينة كاملة عن أضواء الغرفة، وصوت التلفاز وكل شيء، لم يكن تخلياً، أو حلم يقظة، كانت رؤيا، رؤيا العاشقين حق، رأيتك أمامي متجسدة كأن جهاز هولوجرام، قد صورّك فأحسن صورتك، تجلسين جواري على أريكة، نحكي سوياً، لم يسعفني الوقت لأتبين الحكاية وطبيعتها، أفقت سريعاً، أسِفاً وسعيداً، أسِفاً لأن الغفوة جاءت خلسة، رغم إحساسي الكامل بها، وسعيداً، لأنك كنتِ تستندين إلى كتفي، في استرخاء ووداعة، وعلى قسمات وجهك علامات الطمأنينة“.
من رسالة إلى هبة بعد شجارات عديدة تخللت فترة الخطوبة:
خصوصا مع دخول الصنايعية حياتنا، واقتراب الزواج. وحين يقترب الزواج، تختفي كل مظاهر “السهوكة الجميلة” التي تسيطر على المخطوبين.
أتذكر ليلة الزفاف قبل ساعات من الزواج سألتني هبة: “إنت متأكد إنّك بتحبني فعلاً؟”. حينها أدركنا أن الزواج في مصر بمثابة وحش بالفعل نواجهه ونخشاه حتى آخر وقت.
١٧
المكان: حديقة نهارية تحتضن حفل الزواج
لم أصدق أنني سأصبح عريسا لفتاة كانت منذ سنوات مجرّد صديقة. أصبحت الآن مؤمنا أن الصداقة قد تتحوّل إلى حب. تغيّر عملي أيضا للأفضل. غادرت الصحافة للتلفزيون، وأصبحت أكتب بشكل أكبر.
الزمان: ٢ نوفمبر ٢٠١٤
الجغرافيا وافقت التاريخ. ما كان مستحيلا منذ سنوات أصبح الآن واقعا. من كان يعلق على باب غرفته “تحيا حياة العزوبية” بات يرتبط بفتاة رباطًا لا فكاك منه. حاولنا بالفعل بناء حياتنا الخاصة في مدينة لا تخص كلينا. القاهرة التي جمعت بين سكندري وصعيدي. قلنا ربما هذا هو السور الأول الذي ينجّي، ويجعلنا نصنع أحلامنا وحدنا.
١٨
المكان: مستشفى خاص بمكان سكننا بالسادس من أكتوبر
هبة تجلس على سرير معدني.. أمعاؤها وطفلنا يحيى إلى الخارج.
الزمان: ٥ إبريل ٢٠١٦
لا يستمر اثنان يحبّان بعضهما إلا وسيأتي يوم يتخذان فيه قرارا بالإنجاب. ندرك قيمة العفن الذي نعيشه، ومقدار ما قد نجنيه على المولود. نعذّب أنفسنا بالتفكير. نصل إلى قرار بالخلفة نسعى لعدم الندم عليه، وأن يكون فردا داخل منظومة السور الذي نشيده.
عشت أنا وهبة أوقاتا طويلة في محاولة أن نفهم بعضنا. مهما كانت درجة الصداقة والحب. أنت عشت عشرات السنوات بنمط وهي بآخر. لكن أحسب عمري فأجد أنّه بدأ في الخامس والعشرين من أكتوبر للعام ٢٠١٢، عندما أخبرت هبة أنني أحبها. في لحظة ما مع نفسك تدرك أن مقدار ما تكوّن من حياتك فعلا هو ما عشته في سلام نفسي. هبة أدركتني، وأدركتها. حاولنا أن نعيش، أن نُجابه الحياة التي قذفنا داخلها طفلنا كان جزءًا مما بدأ يرافقنا في حياتنا.
١٩
المكان. مستشفى خاص بمكان سكننا بالسادس من أكتوبر
أجلس أنا على سرير معدني يتدلى منّي بعض المحاليل.
الزمان: ٢٩ أكتوبر ٢٠١٦
موعد أول جلسة كيماوي بعد معرفة إصابتي بالسرطان. بداية أن تعبس الحياة في وجهنا. أحسب المدى الزمني. أنظر للتواريخ المولع بذكرها. ست شهور فقط قضيتها كأب دون ورم يجثم عليّ، ويحوّل الفتاة هبة الحبيبة والزوجة إلى دور الصديقة التي تساند صاحبها المريض وليست مجرّد الزوجة التي تدعم بشكل خاص.
لا أعرف كيف أصبحت هبة أكثر صداقة إليّ بعد المرض. هبة فتاة يغلب عليها الارتباك لو وجّه إليها شخصان الحديث في وقت واحد.
منذ ذلك اليوم ألقيت إليها بكل ضعفي وهواني وطفولتي. أخبرتني: لنعش اليوم بيومه. لكن الأيام مؤلمة يا هبة، وتحملنا لها كان من ضروب المستحيل.
٢٠
المكان: مستشفى خاص بمكان سكننا بالسادس من أكتوبر
لا أستطيع الجلوس على سرير معدني.
الزمان: ٩ سبتمبر ٢٠١٨
نصفي الأسفل أصابه العجز، ولم أقوَ على التحرّك.
٢١
المكان: فيسبوك.. هبة تكتب عبر صفحتها- رغما عني-:
“زي بكرة من 6 سنين كان أول مرة نقول لبعض بحبك وسجلنا اليوم، وبنحتفل ليه كل سنة .بس السنة دي هنقضيه في العناية المركزة. ادعوا لحازم يقوم بالسلامة“.
الزمان: ٢٤ أكتوبر ٢٠١٨
لا أحب مشاركة الناس ما يضيرهم فيّ. حسنا لن أحكي بالطبع تجربة العناية المركزة التي غادرتها لغرفة عادية بعد أسبوعين- أسبوعين سيأتي يوم أحكيهما لأنساهما.
٢٢
المكان.. غرفة العناية المركزة
أرقد وحيدًا في غرفتي بلا هاتف، بلا بشر، برئة مسدودة. بأوكجسين في الفم يحاول إبقاءك على قيد الحياة.
الزمان: ٢٥ أكتوبر ٢٠١٨
حوار بين يحيى ووالدته بعد أكثر من اثني عشر يوما، دون رؤيتي
– ماما، ممكن تروحي للدكتور تقولي له عايزة أشوف بابا؟
تذهب هبة للطبيب الذي يرفض الطلب، حيث كنت معزولا. ينزوي طفلي على نفسه. لا أصدق طلبه وتفكيره.
– ماما ممكن لو سمحتي تقولي للدكتور تاني عايز أشوف بابا مرة واحدة بس؟
تنزوي هبة على نفسها. يبكيان.
٢٣
المكان: غرفة في مستشفى بالمهندسين
الزمان: ٢ نوفمبر ٢٠١٨- ذكرى زواجنا الرابعة.
1
هذه صورتي. أو هذه هي هبة الصديقة التي عرفتني صاحبا قبل أن تعرفني محبا وزوجا. تحترم لحظات طفولتي التي تطغي عليّ. رغبت منها في هدية عيد الزواج. تعرف أن الكتب والأجهزة الإلكترونية الجديدة ترفع مناعتي أكثر من الأدوية. منحتي كتبا يتجاوز ميزانيتها كتب معرض الكتاب التي نضعها. من أين تدبّر النقود؟ هل تفيد الصداقة قبل الحب؟ يكفي أن أخبرك أنني ربما نمت لليلة الأولى منذ فترة بلا ألم. أو طغى شعور ما فعلت على الألم الذي يحاوطني. نمت والكتب في حضني. ربما تسبب عددهم في جبل الألم ووقفه عن حده للحظات، وأنا لا أحتاج سوى للحظات بلا ألم.
٢٤
المكان: مستشفى بالمهندسين. قضينا بالمستشفيات أكثر ربما مما قضينا بالمنزل. أصبح طفلنا يعرف الممرضين، ويهاب الأطباء.
الزمان: ما يتبقى من وقت. هذه رسالة إلى فتاة صادقتها ربما لا تعرف كثيرًا مما قمت بتأويله هنا. هذه رسالة اعتراف منّي بأن الصداقة تتحوّل إلى حب. لا يوجد قواعد ثابتة في العالم، لكن القاعدة الوحيدة التي ودت ذاكرتي أن تبوح بها أنني ممتن لهبة خميس الفتاة التي ما زالت تسألني: “هو ليه في جواز وعقد وبتاع، ما كل اتنين بيحبوا بعض يعيشوا مع بعض وخلاص، بدل وجع الدماغ ده”. كفي أرجوك يا هبة عن أسئلتك الوجودية. لن يتغيّر العالم. سوف نحاول أن نكون العالم وأمرنا لله.
تصر هبة أن الزواج هو المقلب الذي لا تستطيع أن تندم عليه. أصر أنا على أنها الصديقة التي لا أندم عليها. تتداعى بغتة علىّ الثورة وقيامها. لو لم تقم الثورة وتنشر الكتاب وأقابلها في مطعم البيتزا، وأنساب في الوحدة، وتنتشلني بكلمات ولقاءات غيرّت حياتي رأساً على عقب هل كانت ستكون الحياة هي الحياة؟.
متى تتوقف الأسئلة؟.
٢٥
“يطير الحمام
يحطّ الحمام
– أعدّي لي الأرض كي أستريح
فإني أحبّك حتى التعب…
صباحك فاكهةٌ للأغاني
وهذا المساء ذهب
ونحن لنا حين يدخل ظلٌّ إلى ظلّه في الرخام
وأشبه نفسي حين أعلّق نفسي
على عنقٍ لا تعانق غير الغمام
وأنت الهواء الذي يتعرّى أمامي كدمع العنب
وأنت بداية عائلة الموج حين تشبّث بالبرّ
حين اغترب
وإني أحبّك، أنت بداية روحي، وأنت الختام
يطير الحمام
يحطّ الحمام“
محمود درويش
٢٦
صورة الصديقان: هبة خميس وحازم دياب