د.هيفاء السنعوسي تكتب: أمراض القلوب… أبعادها وخطورتها وعلاجها
الكويت – النخبة:
المصدر – الراي:
أمراض القلوب موضوع مهم، منه تنطلق منهجية حياتنا وسلوكياتنا وتعاملنا مع الآخرين، ومن أصابه مرض منها يعيش في متاهة معتمة، بها يغرق في مستنقع يُحوّل حياته إلى كارثة ومحنة كبيرة!
ولنبدأ بمعرفة أنواع أمراض القلوب، ولننطلق في باب النوع الأول منه وهو مرض الهم والغم والحزن الشديد، وقد يمكن مكافحته بأدوية تقضي على أسبابه، وهو بلاشك مرض يصيب البدن، فما أصاب القلب فإنه يسري إلى البدن كما نعرف وكما أكده الطب أيضأً. ولننتقل للنوع الثاني من أمراض القلوب، وهو مرض قد لا يتألم به صاحبه في ذات اللحظة، وهوما أردتُ طرحه في موضوع نقاش جمعة هذا الأسبوع، ومن أمثلته مرض الشكوك والأوهام، ومرض الشهوات وتحرّك الغرائز بسبب فساد القلب، وإذا كان النوع الأول يمكن الاستشفاء منه بالدواء الطبي بالأدوية والجلسات العلاجية النفسية، فإن النوع الثاني يوجب الدواء الايماني وعلى الفور، فلامجال للتسويف في علاجه.
وقد قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشربه نكتت فيه نُكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادًا كالكوز مجخيًا (أي مقلوبا)، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، إلا ما أُشرب من هواه، وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض».
ويقول العلامة ابن القيم يرحمه الله: «القلب يعترضه مرضان يتواردان عليه إذا استحكما فيه كان هلاكه وموته، وهما مرض الشهوات ومرض الشبهات، هذا أصل داء الخلق إلا من عافاه الله». ويقول يرحمه الله في موضوع آخر: «مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم وفساد القصد، ويترتب عليهما داءان قاتلان، وهما: الضلال والغضب، فالضلال نتيجة فساد العلم، والغضب نتيجة فساد القصد، وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها».
وهكذا ندرك أن الفتن بنوعيها التي تستقبلها بعض القلوب هي مسببات مرضها وسقمها وسوء حال صاحبها، وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات، وفتن الباطل والضلال والبدع، والظلم والجهل التي يستسهلها بعض الناس، دون إدراك لما تخلفه من آثار سلبية وخيمة تحول حياتهم لكوارث ونكبات نفسية وأضرار للآخرين. وهنا تتجلى مسألة فساد الإرادة، ويتبعها فساد الاعتقاد. قال الله جل وعلا وقوله الحق: «كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ».
وقد أشار الله تبارك وتعالى في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأبدان وهو نيل الشهوات، والخوض بالشبهات الباطلة، وهنا ينشأ فساد الدين باعتقاد الباطل والمجاهرة به، أو قد يكون بالعمل بخلاف العلم الصحيح المستدل عليه بالكتاب والسنة النبوية، من مثل البدع، ومن جاهر بها ونشرها واستسلم لها، وحثّ على فعلها. ونلحظ أمراض الشهوات بقوله تبارك وتعالى وقوله الحق: «فلاتَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً».
ويبرز هنا مرض الشهوة والفجور والزنا، وهذا دلالة على فساد القلب الذي يولّد في نفسه كراهية الحق النافع، وحب وإدمان الباطل الذي يضره في الدنيا والآخرة. يقول الله تبارك وتعالى في وصف المنافقين: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ». ويقول تعالى وتقدس: «وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً» وفي سورة الحج يقول تبارك وتعالى: «لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ».
وقد جاء في تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي يرحمه الله قول الله جل وعلا: «في قلوبهم مرض» قوله رحمه الله: «المراد بالمرض هنا: مرض الشك والشبهات والنفاق، وذلك أن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله، مرض الشبهات الباطلة، ومرض الشهوات المردية، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع كلها من مرض الشبهات، والزنا ومحبة الفواحش والمعاصي وفعلها من مرض الشهوات». وذكر العلامة ابن القيم يرحمه الله تعالى في هذا الموضوع أمراً مهما حيث قال: «ويتبعهما أمران آخران وهما: نفي شبهات الباطل الواردة عليه المانعة من كمال التصديق… ودفع شهوات الغي الواردة عليه المانعة من كمال الامتثال. فها هنا أربعة أمور:
أحدهما تصديق الخبر، والثاني: بذل الاجتهاد في رد الشبهات التي توحيها شياطين الجن والإنس في معارضته، والثالث: طاعة الأمر، والرابع: مجاهدة النفس في دفع الشبهات التي تحول بين العبد وبين كمال الطاعة.
وهذان الأمران – أعني الشبهات والشهوات – أصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده، كما أن الأصلين الأوليين وهما: تصديق الخبر وطاعة الأمر أصل سعادته وصلاحه في معاشه ومعاده، وذلك أن العبد له قوتان قوة الإرادة والنظر وما يتبعها من العلم والمعرفة والكلام، وقوة الإرادة والحب وما يتبعها من النية والعزم والعمل، فالشبهة تؤثر فسادًا في القوة العلمية النظرية ما لم يداوها بدفعها، والشهوة تؤثر فسادًا في القوة والإرادة العملية ما لم يداوها بخراجها».
ولعل البعض منكم يتساءل لماذا سُميت الشبهة «شبهة» والجواب هو لاشتباه الحق فيها بالباطل. وللعلامة ابن القيم يرحمه الله توضيح مهم وجوهري في مرض الشبهات فقد قال: «الفتنة نوعان: فتنة الشبهات وهي أعظم الفتنتين وفتنة الشهوات، وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما.
ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة وقلة العلم ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد وحصول الهوى. فهنالك الفتنة العظمى، والمصيبة الكبرى، فقل ما شئت في ضلال سيئ القصد، الحاكم عليه الهوى لا الهدى، مع ضعف بصيرته، وقلة علمه بما بعث الله به رسوله، فهو من الذين قال الله فيهم: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع على حسب مراتب بدعهم، فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التي اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل والهدى والضلال.وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد، وتارة من نقل كاذب، وتارة من حق ثابت خفي على الرجل فلم يظفر به، وتارة من غرض فاسد، وهوى متبع، فهي من عمى في البصيرة، وفساد في الإرادة» وهنا انتهت مقولته رحمه الله.
وفي موضع آخر قال: «والقلب يتوارده جيشان من الباطل: جيش شهوات الغي، وجيش شبهات الباطل، فأيما قلب صغى إليها وركن إليها تشرّبها وامتلأ بها، فينضح لسانه وجوارحه بموجبها فإن اُشرب شبهات الباطل تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات والإيرادات فيظن الجاهل أن ذلك لسعة علمه وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه.
وقال لي شيخ الإسلام ابن تيميّة رضي الله عنه وقد جعلت أورد عليه غير إيراد بعد إيراد:(لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثلا لإسفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرا للشبهات) أو كما قال، فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك». وإن انتقلنا إلى دائرة أخرى من دوائر أمراض القلوب فإننا نشير إلى مرض الرياء والحسد وهوس الشهرة والخيلاء والإعجاب بالذات والمغالاة في نفخها، وهذا مرض قلبي خطير أيضاً ويتكون من مركب معقد فيه مرض الشبهة والشهوة مجتمعان معاً.
وقد اشار العلامة ابن القيم رحمه الله لهذين المرضين فقال: «وإذا تأملت أمراض القلب، وجدت هذه الأمور وأمثالها هي أسبابها، لا سبب لها سواها» وفي موضوع آخر قال رحمه الله: «القلب يعرض له مرضان عظيمان، إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولا بد، وهما الرياء، والكبر، فدواء الرياء بـ (إياك نعبد) ودواء الكبر بـ (إياك نستعين)، وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول:(إياك نعبد) تدفع الرياء (وإياك نستعين) تدفع الكبرياء فإذا عوفي من مرض الرياء بـ (إياك نعبد) ومن مرض الكبرياء والعجب بـ (إياك نستعين) ومن مرض الضلال والجهل بـ (اهدنا الصراط المستقيم) عوفي من أمراضه وأسقامه، ورفل في أثواب العافية، وتمت عليه النعمة، وكان من المنعم عليهم غير المغضوب عليهم وهم أهل فساد القصد، الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه والضالين وهم أهل فساد العلم، الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه». وهنا انتهت مقولته. ونقول هنا إن سورة الفاتحة شفاء لأمراض القلوب والأبدان، والقرآن العظيم بكل سوره شفاء لما في الصدور، وقد قال الله عز وجل في كتابه وقوله الحق: «يا أيها الناس قد جاءتكم موعظةٌ من ربكم وشفاءٌ لما في الصدور وهدىً ورحمة للمؤمنين».
ونختم بالسؤال الذي يقول: ما الدعاء لتطهير القلب من الحقد والحسد، ولتطهير اللسان من الغيبة والنميمة والكذب؟ ويأتي الجواب على لسان الشيخ ابن باز يرحمه الله بقوله: يدعو المسلم والمسلمة بكل ما ينفعه في ذلك، فيقول: «اللهم طهر قلبي من كل خلق لا يرضيك، اللهم طهر قلبي من الغل والحقد والحسد والكبر، اللهم طهر قلبي من كل سوء، من كل أذى، من كل داء، كلها كلمات طيبة، فإذا دعا المسلم أو المسلمة بمثل هذا الدعاء فهو طيب يأتي بكلمات جامعة، اللهم طهر قلبي من كل سوء، اللهم طهر قلبي من كل ما يغضبك، اللهم طهر قلبي من كل غل وحقد وحسد وكبر ونحو ذلك.
ويقول: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك، اللهم أصلح قلبي وعملي، اللهم أصلح قلبي وعملي، اللهم طهر قلبي من كل سوء، اللهم طهر قلبي من كل داء، اللهم طهر قلبي وجوارحي من كل سوء، اللهم طهر قلبي وجوارحي من كل ما يغضبك كلها كلمات متناسبة طيبة». وهكذا كان الختام بهذه الأدعية الجميلة، هذا ونسأل الله أن يطهر قلوبنا من أمراض القلوب، وأن يقينا شر الوقوع في مستنقعها.