التنمية وتعدد الأجهزة الرقابية بالدولة هل تداخل وتكرار أم تكامل للأدوار؟
هكذا لخص معالي الشيخ ناصر صباح الأحمد الصباح أثر مشكلة الفساد على التنمية في كلمته التي ألقاها في المؤتمر الدولي الذي عقد مؤخرا وكان بعنوان «التشريعات القانونية والآفاق الاجتماعية المتعلقة بدور الأسرة والتنمية المستدامة 2035.. المرأة والطفل والحدث»
ان التنمية الاقتصادية والاجتماعية من المتطلبات الأساسية للمجتمع، فإذا كانت التنمية مؤشرا يقاس به مدى تقدم أداء الدول ورقيها، فإن الجهود المبذولة من قبل تلك الدول لضمان تعزيز حوكمة عمل وأداء خطط التنمية تعد مؤشرا آخر يقاس به أيضا أداء تلك الدول، لأن هناك للأسف جهودا سلبية بصور متعددة تعوق تنفيذ خطط التنمية وتوقف عجلة التقدم بالدول منها ما يتعلق بآفة الفساد بكل صوره.
وقد انعكس تراجع ترتيب الكويت في مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية العالمية سلبا على أداء الحكومة وجهودها وإجراءاتها في الحد من الفساد مما يضع تلك الجهود والإجراءات محل تقييم نظرا لعدم فاعليتها، وقد جاء ترتيبها الأخير مقارنة من بين ترتيب دول مجلس التعاون ويعد هذا مؤشرا على عدم فاعلية الإجراءات التي تنتهجها الدولة والخاصة بمكافحة الفساد.
ومن واقع التجربة العملية في مجال الرقابة المالية بوجه عام والرقابة المالية المسبقة بوجه خاص، كانت النتيجة التي استخلصتها من تلك التجربة هي انه لا تنمية دون رقابة مسؤولة وموضوعية، ولا رقابة فاعلة دون وجود إيمان بأهمية الأنظمة الرقابية التي تضمن تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالشكل المخطط لها.
فالرقابة بوجه عام ليست مجرد وظيفة وانما هي إحساس بالمسؤولية تجاه المؤسسة التي ينتمي إليها المكلف بالرقابة، وان تعزيز هذه المسؤولية يتنامى لديه مع الإحساس بالمواطنة، لذلك يتطلب من القائمين على تنفيذ برامج التنمية ان يكونوا على قدر من المسؤولية أيضا تجاه الأجهزة الرقابية المختلفة، وعلى ان يكون هناك قدر من التفهم لدورهم وان يكون التعامل معهم في هذا الشأن ضمن إطار الفريق الواحد وتكامل العمل والأدوار.
وما يؤكد على أهمية تعزيز الحوكمة في خطط التنمية ما احتوت عليه رؤية 2035 والتي ترتكز على سبع ركائز، تشتمل على عدد من البرامج والمشروعات الاستراتيجية المصممة لتحقيق أكبر أثر تنموي ممكن نحو بلوغ رؤية الكويت الجديدة، ومنها خلق إدارة حكومية فاعلة لإصلاح الممارسات الإدارية والبيروقراطية لتعزيز معايير الشفافية والمساءلة الرقابية وفاعلية الجهاز الحكومي.
ويأتي دور الأجهزة الرقابية المختلفة بالدولة في سياق تحقيق هذه الركيزة وهي الضمان الحقيقي لتنفيذ مشاريع خطط التنمية وفقا لمسارها وأطرها الصحيحة، وصولا الى تحقيق مستهدفات تلك المشاريع وانعكاسها على الجوانب التنموية الاقتصادية والاجتماعية، وبما يحقق القيمة المضافة للمجتمع.
الأجهزة الرقابية وتعددها
ذهبت بعض الآراء إلى نتائج لا نتفق معها بشأن تعدد الأجهزة الرقابية، حيث بالغت تلك الآراء من انتقادها للنظم الرقابية الى درجة اتهامها بالمبالغة في ممارسة رقابتها، الأمر الذي ساهم في بروز وانتشار الفساد، كما انها ساهمت في تعطيل العديد من مشاريع التنمية على حد تعبيرهم، وكذلك تعسف بعض الجهات الرقابية باستخدام سلطاتها في عرقلة المشاريع الرئيسية الكبرى، وفي الحقيقة لا اتفق مع ما ذهبت اليه تلك الآراء من وصف لتعدد الأجهزة الرقابية، لأن مثل هذا الوصف يعتبر مجحفا ومبالغا فيه كما ان هذا الوصف ليس في محله.
وتتعدد الأجهزة الرقابية بالدولة نظرا لاختلاف اختصاصاتها ونوع رقابتها وتبعيتها، كديوان المحاسبة وجهاز المراقبين الماليين ووزارة المالية وغيرها من الأجهزة التي تمارس الرقابة النوعية، وعلى الرغم من تعدد الأجهزة الرقابية الا لهذا التعدد فلسفة تشريعية وفنية، وان الاعتقاد بتعدد الجهات الرقابية يعني تكرار الأعمال من عدة جهات فهذا اعتقاد خاطئ، لان لو اطلعنا على دور كل جهاز رقابي سواء كان داخليا او خارجيا لوصلنا الى قناعة بأن هناك اختلافا كبيرا في اختصاصات تلك الأجهزة على الرغم من تشابه أهدافها، لذلك فإن أدوار تلك الأجهزة تعتبر في غاية الأهمية وهي مكملة للأخرى وليس دورا مكررا، كما ان تعدد الجهات الرقابية ليس قاصرا على القطاع العام وانما التعدد موجود في القطاع الخاص، وعليه فإن التعدد في الأجهزة ليس أصل المشكلة.
نتائج أداء الأجهزة الرقابية
يجب ان ينظر الى الجانب الإيجابي والمضيء لدور الأجهزة الرقابية، وقياس أدائها وفقا لأهداف إنشائها والتي تجتمع في تحقيق هدف رئيسي ألا وهو صيانة المال العام والمحافظة على موارد الجهات والمؤسسات الحكومية، لذلك يتطلب قبل الحكم على أي جهاز رقابي أن يتم تقييم أدائه لمعرفة ما هي القيمة المضافة لتلك الأجهزة الرقابية، فعلى سبيل المثال فديوان المحاسبة وفقا لاحد تقاريره السنوية السابقة حقق قيمة مضافة قدرت بـ 294 مليون دينار أي ما يعادل 6.5 دنانير لكل دينار ينفق على ميزانية الديوان، وجهاز المراقبين الماليين لعب دورا مهما في حوكمة العمليات المالية في الجهات الخاضعة لرقابته، حيث إن مؤشرات أداء الجهاز تشير الى انخفاض نسبة المخالفات مقارنة بعدد المعاملات المالية خلال 4 سنوات منذ إنشائه من 11% الى 5% تقريبا، وهذا يدلل على أهمية ودور الأجهزة الرقابية في رفع كفاءة الأداء المالي بالدولة بغض النظر عن تعددها.
تعزيز مبدأ المسؤولية والمساءلة
وفي سياق ركائز رؤية الكويت 2035 والمتعلقة بخلق إدارة حكومية فاعلة، فقد أشارت الى مبدأ المساءلة، فأينما وجدت المسؤولية فلابد من وجود المساءلة، لذا يقع على عاتق القائمين على الأجهزة الرقابية مسؤولية كبيرة، فالدور الرقابي المنوط بهم يعتبر دورا حيويا وعلى وجه التحديد ديوان المحاسبة وجهاز المراقبين الماليين باعتبارهما يمثلان نظام الرقابة المالية المسبقة واللاحقة معا، فهما وجهان لعملة واحدة، كما يتطلب أيضا من القائمين على الأجهزة الرقابية تعزيز روح المسؤولية لديهم نظرا لأهمية الدور المنوط بهم وهو حماية وصيانة المال العام، لأن أي خطأ تقع فيه تلك الأجهزة يترتب عليه كلفة مالية، وقد تكون الكلفة عالية جدا مما يستلزم ضرورة تقييم أداء العاملين بها ومحاسبة المقصرين.
ومبدأ المساءلة لا يقع نطاق تنفيذه على القائمين على الأجهزة الرقابية فقط وإنما يسري ايضا على القائمين على الأجهزة المالية بالدولة بمن في ذلك المسؤولون عن التصرفات المالية التي لا تتفق مع القوانين المنظمة بالجهات الحكومية، فنجاح النظام الرقابي مرتبط بمدى نجاح نظام المساءلة.
منصة للتعاون والتنسيق بين الأجهزة الرقابة
جاء في محاور برنامج عمل الحكومة والمتعلق بالفترة الحالية حتى انتهاء الفصل التشريعي الخامس عشر الحالي لمجلس الأمة في محوره الأول المتعلق بتعزيز النـزاهة، اسـتراتيـجية النزاهة ومكافحة الفساد، وقد تضمنت عددا من الأهداف وعددا من المبادرات منها خلق منصة للتعاون والتنسيق بين الأجهزة الرقابية.
ولعل أهمية وجود مثل تلك المنصة أن يتم تحقيق التكامل بين الأجهزة الرقابة من خلال التعاون والتنسيق فيما بينها، وتجدر الإشارة الى ان جهاز المراقبين الماليين هو اول من تبنى مثل تلك المبادرة، حيث تقدم بتوصية خلال الندوة بعنوان «دورة أجهزة الرقابة المالية في حماية المال العام» التي عقدت خلال الفترة 22 – 23 مايو 2016، حيث أوصى جهاز المراقبين الماليين بضرورة عقد حلقة نقاشية تجمع كل الأجهزة الرقابية لمناقشة القضايا المشتركة فيما بينها من باب التعاون المشترك بين الأجهزة الرقابية.
وعلى أثر ذلك اصدر مجلس الوزراء قراره رقم 758/2016 بالإحاطة بالتوصيات التي انتهت إليها الندوة المشار إليها، حيث قرر تكليف جهاز متابعة الأداء الحكومي بمتابعة تنفيذ التوصيات بالتنسيق مع الجهات المختلفة، ومن تلك التوصيات عقد لقاء دوري (كل ربع سنوي) بين الأجهزة الرقابية المختلفة والجهات الحكومية لبيان ابرز الملاحظات المتكررة لكل جهاز على الأداء الحكومي، وطرق علاجها ولتبادل الآراء والمقترحات والمتطلبات اللازمة للحفاظ على المال العام، وتفعيل التعاون والتنسيق بين الجهات الرقابية لحماية المال العام على ان يكون ذلك اللقاء تحت رعاية مجلس الوزراء وتفعيل ما يسفر عنه من قرارات ووضعها موضع التنفيذ.
كما اقترح رئيس الجهاز السابق السيد/ عبدالعزيز الدخيل في عام 2018 مشروعا بإنشاء لجنة عليا ممثلة بعضوية الأجهزة الرقابية بالدولة لمتابعة ومعالجة الملاحظات والمخالفات الواردة بتقارير الجهات الرقابية، حيث يتسق هذا المقترح مع المقترح المطروح من قبل الحكومة بشأن خلق منصة للأجهزة الرقابية، حيث يهدف مقترح الجهاز الى إنشاء لجنة عليا لمتابعة ومعالجة الملاحظات والمخالفات الواردة في تقارير الجهات الرقابية على أعمال الوزارات والإدارات الحكومية والهيئات الملحقة والمؤسسات المستقلة.
وفي الختام، نؤكد ان أنظمة الرقابة ممثلة بالأجهزة الرقابية بالدولة بكل أنواعها تمثل أداة فعالة لضمان نجاح مشاريع التنمية، وهذا ما تؤكده الممارسات المحلية والدولية، وان تحقيق التنمية يتطلب بيئة تتسم بشفافية إجراءاتها وحوكمة أعمالها، وهذا يعزز من أهمية دور الأجهزة الرقابية المختلفة لتوفير تلك البيئة، لذلك يتطلب الامر ضرورة دعم ورفع كفاءة اجهزة الرقابة المختلفة وتعزيز مجال التعاون والتنسيق فيما بينها في سبيل تحقيق التكامل في العمل الرقابي.
كما نرى من الأهمية إعادة النظر في تشكيل اللجنة العليا لقيادة وتنسيق الاستراتيجية الوطنية لتعزيز النزاهة ومكافحة الفساد الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم 691 لسنة 2019، والتي تضم في عضويتها 21 عضوا، يمثلون وزارات ومؤسسات الدولة ذات العلاقة بتنفيذ محاور ومبادرات الاستراتيجية الوطنية، علاوة على عضوية جمعية الشفافية الكويتية ممثلة للمجتمع المدني، حيث كان من المستغرب عدم شمول اللجنة لعضوية جهاز المراقبين الماليين والذي يعتبر جهازا مهما ومحوريا في مسألة مكافحة الفساد المالي.