الشيخ عبدالله السالم.. وفلسفة الدستور ،،، بقلم / عبدالله بشارة
حباً في الاختصار.. أكتب ما يلي: أولا – زار المرحوم الشيخ عبدالله السالم، حاكم الكويت، بغداد في مايو 1958، قابل هناك جميع المسؤولين، ملكاً ووصياً ورئيس الوزراء، ورفض مقترح انضمام الكويت – كدولة مستقلة – للاتحاد الهاشمي، والتقى السفير البريطاني، وحمله احتجاجاً قوياً لبحث شؤون كويتية مع بغداد من دون إذن أو علم منه، وبلا تفويض، وكان الرد بأن الشيخ عبدالله السالم يقرر نيابة عن الكويت ما يريد، وهو مستقل تماماً، لكن مجرد رغبة تراها بريطانيا في مصلحة الكويت. ثانياً- عاد الشيخ عبدالله السالم إلى الكويت، متأثراً وقلقاً، الأول بسبب تحركات لم يعلم بها، والثانية لأنه شعر بأوضاع بغداد غير مريحة وبلا آليات لمواجهة الوضع، وضياع الحيلة من يدي المسؤولين الذين لم يقرأوا الوضع الإقليمي جيداً. ثالثاً- بدأ الشيخ عبدالله السالم يستعد لاستقلال الكويت وتحضيراً لذلك أجرى أربع مقابلات مع المقيم السياسي البريطاني خلال الأشهر أغسطس وسبتمبر وأكتوبر من عام 1958، عقدت جميعها في قصر دسمان ودائماً في الساعة السابعة والنصف صباحاً، وفيها عبر الشيخ عبدالله عن قلقه من الأوضاع الإقليمية، لا سيما بعد ثورة العراق في يوليو 1958، بعد زيارته لبغداد بشهرين، وطالب رسمياً بموقف بريطاني واضح، لأنه رسم خطة لاستقلال الكويت، ويريد التأكد من الترابط مع بريطانيا، وإدخالها في أجواء واضطرابات المنطقة. كانت هذه اللقاءات التاريخية تقتصر على الشيخ عبدالله السالم بحضوركل من السيد بدر الملا سكرتير الحكومة، والسيد أشرف لطفي، سكرتير الإدارة، تولى الترجمة ونقل الرسائل المتبادلة بين الطرفين. نشرت صحيفة القبس محاضر هذه اللقاءات بالتعاون مع مركز الدراسات والبحوث الكويتية، ووزع الكراس مع عدد القبس في ذلك اليوم. أعلن الاستقلال في 19 يونيو 1961، وتلاحقت الأزمات مع ادعاءات رئيس وزراء العراق عبدالكريم قاسم، وتصدى الشيخ عبدالله السالم للأزمة على صعيدين، خارجي لكسب موقف عربي جماعي، ودعم دولي، وكان أول الداعمين الملك سعود، رافضاً ومرسلاً كتيبة من ألف جندي للدفاع عسكرياً وسياسياً، ولحقه دعم من الرئيس جمال عبدالناصر، وتوجه الشيخ عبدالله إلى جامعة الدول العربية للعضوية، لكنه وبحكمة راسخة، تعامل مع إحلال قوات عربية رمزية بدلاً من القوات البريطانية، لكن التوجه للأمم المتحدة تأخر عامين بسبب صراع الكبار في الحرب الباردة، واعتراض موسكو نكاية ببريطانيا، واختفت المشكلة مع سقوط نظام قاسم. رابعاً – تعامل الشيخ عبدالله السالم في الداخل بأسلوب الصابر والمجرب، فوسع المشاورات مع رجال الكويت، مستفيداً من الدروس التي عرفها في تاريخ الكويت، ورسم خريطة إعداد الدستور، منطلقاً من وضع الكويت على درب المشاركة الشعبية عبر دستور يؤمن هذا الهدف، إيماناً منه بأن الدستور يوفر صيغة المشاركة في إدارة الكويت، بأسلوب ثنائية تجمع الأسرة وممثلي الشعب المنتخبين، من أجل ضمان وحدة وطنية نابعة من تداخل الطرفين، سجلها التاريخ منذ ولادة الكويت في منتصف القرن الثامن عشر، وتشابكهما في التغلب على قسوة الحياة، بالاندفاع البحري التاريخي للحصول على ما يضمن استمرار الحياة. خامساً- أصبح النهج البرلماني الوصفة الآمنة لتجذير الوحدة الوطنية، وفق صيغة المشاركة، فالبرلمان شريك والأعضاء تجسيد للشراكة، مع قناعة مشتركة بالابتعاد عن كل ما يؤذي الوحدة، ورفض أي إجراء أو اقتراح يؤذي أي طرف منهما – مؤسسة الحكم والشريك البرلماني- مع التزام بالحفاظ على صحة المسيرة الدستورية. بهذه الروح أبحرت سفينة الكويت، بولاء تام لمعاني المشاركة، فالسفينة التي تسير في بحر هائج ومضطرب لن تصل إلى ساحل الأمان، خاصة أن البحر ليس مملوءاً بالأعاصير فقط، وإنما أيضاً بالتربص، لا سيما أن الكويت طول عمرها وردة يسعى الكثيرون لقطفها. سادساً- توفي الشيخ عبدالله السالم في نوفمبر 1965، ومن جاء بعده، خرج من شبكة التوافق الدستوري، ممن يملك المكونات التي تتطلبها الكويت، رجاحة عقل، وحسن بصيرة، وإيمانه بالتلاقي التاريخي الذي يجسده الدستور. آمن شعب الكويت بالدستور واعتبروه ترسانة البقاء ووصفة الاستمرار وسلاح الكويت في تحديات الزمن، وحضن التعبئة الشعبية الوطنية في وجه من يتطاول رأيناه في الغزو وفي كل أزمة يثبت الدستور بأن الكويت أصلب من الأزمات وعصياً على التخويفات والتهديدات. سابعاً – يضم الدستور في أحشائه أسمى المبادئ الانسانية، الحرية في إطار حكم القانون، وفصل السلطات، واستقلال القضاء، وسيادة العقل، والتلاحم انطلاقاً من وحدة المصير، فالكويت بلا دستور تتعرى ومع الدستور تتعالى. ثامناً- لأن الدستور حكم المشاركة، فواقعه يملي على الجميع حسن التصرف وطيب المعاملة، ورقة المفردات، وإزالة سوء الفهم عبر التحاور والتواصل. هنا يأتي دور الوزير المحلل الذي يشغل الآن وزارة الإعلام مع الإشراف على مسؤولية الزراعة. فقراءتي للدستور أن يكون الوزير المحلل ممثل البرلمان داخل مجلس الوزراء، وممثل مجلس الوزراء داخل البرلمان، ينقل إلى مجلس الوزراء أولويات النواب ومرئياتهم ومقترحاتهم، وينقل إلى النواب قرارات مجلس الوزراء وخلفية هذه القرارات ومسبباتها، ودور البرلمان في حلها، ويشارك في اجتماعات مكتب الرئاسة المكون من الرئيس ومساعديه، بما يضمن المسار المنطقي العاقل لشؤون الدولة، هو المحلل الضامن بأن البرلمان شريك في مداولات مجلس الوزراء، وهو المراقب وعين الطرفين. تاسعاً – يتيح الدستور لجميع الأعضاء في مجلس الأمة كل أبواب الشفافية وكل الحق في معرفة تفاصيل قرارات مجلس الوزراء، بلا حواجز، من أبواب مفتوحة من هيئة الحكم، من سمو الأمير ومن سمو ولي العهد ومن سمو رئيس الوزراء، ومن جميع الوزراء مما يجعل الاستجوابات فائضاً غليظاً، حصيلة الإضرار فيه أكثر من فوائده، وهو عنصر غليظ بظلال سلبية ومؤذية على اللوحة الراسخة والمتوهجة للوحدة الوطنية. عاشراً – لدي قناعة بأن المادة التي توفر لنائب واحد حق استجواب الوزراء لا تتماشى مع مفهوم الشراكة الثنائية الدائمة لحكم الكويت، وأنها تفتح درباً تخرج منه نزعات فردية يغيب عنها واقع الشراكة الايجابية المثمرة. وأتصور لا بد من توسيع المشاركة في مفهوم الاستجواب، من شخص يطلب الاستجواب إلى عشرة نواب ضماناً لثقل المبادرة وتأكيداً لخلوها من نزعات شخصية خاصة، وأن يتطلب طرح الثقة 24 نائباً وليس عشرة نواب كما هي حال اليوم. هذه تعديلات ليست على جواهر الدستور، وإنما على اجراءات التطبيق، وتمكن معالجتها إذا برزت قناعة الأغلبية بها، وإذا نالت الدعم من الرأي العام. أخيراً – أثبت رئيس المجلس بأنه مستوعب لمفهوم الشراكة في ثنائية الحكم، وسار وفق وثيقة الدستور التي خرجت من حكمة الشيخ عبدالله السالم، وعلى وعي بدوره في التهدئة والابتعاد عن متفجرات السياسة، وإنصافاً لرؤساء سابقين فقد كان هذا الوعي متواجداً بعضهم بقوة والآخرين باعتدال. Volume 0% ستتعافى الكويت من كورونا، وعسى أن تكون سلامة هيكلها السياسي بنقاوة جسدها الصحي. في وفاة المرحوم عبدالرحمن العتيقي في اليوم الثاني من الغزو، الجمعة، الثالث من أغسطس 1990، كنت في مطار الرياض استقبل المستشار عبدالرحمن العتيقي عائداً من الأردن لينضم إلى القيادة المتواجدة في الدمام، كان مستاءاً من أجواء الأردن، وقال لي سأبقى مع الشيخ جابر الأحمد إلى حين عودته إلى قصر دسمان.. وكان وفياً لهذا التعهد، فظل بقرب الأمير الشيخ جابر طوال فترة إقامته في شيراتون الطائف. كنت أذهب كل يوم أحد إلى الطائف لأجده جالساً بتصميم بجانب الأمير، كان تجسيداً لرجل المواقف. اختارني مديراً لمكتبه وقدم لي رعاية بمودة وشجعني لأدير مكتب الوزير «سمو الأمير الشيخ صباح» ورأيته في أزمة النفط 1974 عندما جاء إلى الأمم المتحدة ونظمنا له لقاءً واسعاً في نيويورك، التقى خلاله رجالَ الصحافة وكان يتقبل الرأي الآخر. كان ملتزماً مبادئ الدين وطنياً كويتياً، تولى وكالة الخارجية والكثيرين من مساعديه متأثرون بحركة القوميين العرب، تعايش معهم باحترام متبادل، وأصبح وزيراً للمالية، ووزيراً للنفط، محارباً في أجواء السبعينيات، وطنياً صادقاً داخل غوغائية عربية، في القمة العربية في أغسطس 1990، تصدى لسخافات القذافي وسدد له لكمات الاستنكار، فاستغرب القذافي جرأته، كان رواية بدأت بالاعتماد على الذات، واستمرت بقوة الذات والإيمان بالمواقف وشجاعة الرأي. حاولت التواصل معه منذ عام ففشلت، فقد طوى تلك الصفحة الصاخبة من حياته، وتوفى بهدوء، كما أراد. رحم الله عبدالرحمن العتيقي، فقد كان ابن الكويت في كل المسارات.. وعزاءنا لأسرة الفقيد وللكويت كلها.
عبدالله بشارة