رأسمال الدولة.. سمعتها! ،،،، بقلم / محمد بدر الجوعان
يعتبر عام 2003 نقطة تحول في الاقتصاد الوطني الكويتي، تغيرت فيه العجلة الاقتصادية وبدأت بالتحرر من الإنفاق الحكومي مع وجود خطط ومشاريع رأسمالية كبيرة إلى جانب وجود حركة انفتاح اقتصادي نسبي. وشهدت هذه النقلة نوعية انفتاحا في مختلف القطاعات، بعدما كانت الكويت شبه مغلقة في الفترة ما بعد التحرير، حيث طغى التفكير الأمني على كل جوانب الحياة بما فيها القطاعات الاقتصادية ولم يكن متاحا ممارسة أي نشاط فيها، كما لم يكن هناك أي تنمية للقطاعات الاقتصادية بصورة صحيحة، وشهد الاقتصاد آنذاك حالة من الجمود وتوقف النمو وأخذ بالتراجع. وبما أن جميع القطاعات كانت تعتمد بصورة اساسية على الإنفاق الحكومي، فإذا انفقت الحكومة نشط الاقتصاد، وإذا أحجمت الحكومة عن الإنفاق تراجع النشاط الاقتصادي بشكل لافت. آلية التغيير في التعاطي الحكومي تجاه الاقتصاد كانت بعدم الارتكاز فقط على الإنفاق الحكومي، بل ايجاد بدائل تدفع العجلة الاقتصادية إلى الأمام من خلال الانفتاح على القطاع الخاص وجعله المحرك الرئيسي لعجلة الاقتصاد، في حين يكون دور الحكومة المنظم والرقيب. فانفتحت على إثر ذلك قطاعات عديدة في الاقتصاد وانتعشت، ففي قطاع البنوك أولاً، تأسس بنك بوبيان وبنك وربة، وكان أيضاً قرار تحويل تعاملات البنك الأهلي المتحد الجديد آنذاك لتتوافق مع المبادئ الإسلامية، وبات متاحاً للبنوك الأجنبية أن تعمل في السوق المحلي وفقا للقانون الجديد الذي وافق عليه مجلس الأمة. وكذلك كان إقرار قانون الصحافة سنة 2006 وفتح الباب أمام إعطاء تراخيص إصدار الصحف، بعد أن كان متوقفاً. منافسة صحيّة وفي قطاعات حيوية أُخرى كذلك فُتح قطاع التأمين للمنافسة بعد أن كان مغلقاً على عدد محدود من الشركات فقط، حتى إن شركات أجنبية دخلت الى السوق المحلي وصار لدينا في قطاع التأمين منافسة صحيّة وأسعار مغرية للمستفيد من أبناء الشعب إن كان فرداً أو تاجراً. والانفتاح شمل أيضاً شركات الإنترنت والاتصالات، فضلاً عن فتح المجال لتأسيس مزيد من شركات الاستثمار، والفنادق، وكانت الخطة تشمل فتح أبواب المنافسة والتخصيص لتصل إلى تخصيص مرافق في الموانئ والمطار وتتحول لاحقاً من إدارة الدولة إلى القطاع الخاص. وكل ما تم من غير بقية الخطة، فهو بلا شك عبارة عن نقلة نوعية وتحرك جيد في الاتجاه الصحيح، وكان لنتائجها أثر جيد على الاقتصاد، ويتبين هذا بقراءة بحثية للأرقام والمؤشرات في الاقتصاد الكويتي في 2007 (أي دورة اقتصادية تأخذ بين 3 إلى 4 سنوات وبعدها نلتمس نتائج هذه السياسات عملياً)، فلذلك يتبين أن مسار التنمية آنذاك وأرقام الناتج قياساً بعدد السكان كان متفوقاً وقريباً لما يتحقق في الهند والصين في وقته، كما أن الناتج المحلي الإجمالي في الكويت وصل إلى 32 مليار دولار في 2007، وهو أعلى من معدل الصين، وكان لفائض الموازنة العامة الذي يشكل %23.4 من هذا الناتج في 2007، أثر إيجابي على المالية العامة، حيث وصل حجم الفوائض إلى 25 مليار دينار في 5 سنوات، ومع ذلك كانت معدلات التضخم تبلغ في حينها %5.9 ومقارنة بدول الخليج المجاورة فإن المعدل لا يزال منطقياً، وكان القطاع الخاص يساهم بنحو %30 من حجم الناتج المحلي، وكانت هذه النسبة مرتفعة عن قبل.. إلى أن أتت الأزمة المالية العالمية في 2008 وكان على القطاع الخاص إعادة بناء نفسه مجدداً وهو ما تم فعله خلال السنوات العشر الماضية، ولكن على هيئة المبادرين وأصحاب المشاريع الصغيرة معتمدين في ذلك على دخول التكنولوجيا إلى الأسواق الناشئة، فأصبحت هناك طفرة في عدد الشركات الصغيرة وأصبح لدينا سوق جديد ينمو بسرعة كبيرة لفت أنظار كبار المستثمرين الذين استحوذوا على مشاريع كويتية صغيرة في قطاعات التجزئة مثل طلبات وكاريدج وبوتيكات وغيرها الكثير، فالعمل الحر والقطاع الخاص دائماً ما يجد فرصة للتعافي والتجديد والتطوير بعد كل أزمة.. ضريبة الفساد ولكن.. بعد كل هذا العمل المثير للانتباه اقتصادياً بالأرقام والوقائع، كان لعام 2003 جانب آخر أكثر ظلامية، حيث شهدت أسواق النفط العالمية أكبر حركة صعود في الاسعار امتدت إلى أعوام عديدة، انتعشت خلالها الخزينة العامة للدولة وانتعشت معها جيوب «المفسدين» الذين شهدت اعدادهم زيادة كبيرة. المؤلم في كل هذا أن نسب الفساد المالي في ازدياد مطرد، ولم تؤثر فيها أزمة اقتصادية ولا أزمة صحية، والأكثر ألماً أننا كشعب تعايشنا مع الفساد وتغيرت نبرتنا تجاهه من اللا مهادنة إلى الإنكار، وللاسف لم تردع المؤسسات الرقابية كوحدة التحريات المالية و«نزاهة» تلك الممارسات الفاحشة بالتعدي السافر على أموال العامة ومقدرات البلد، فقط في آخر 6 شهور تفجرت 3 قضايا كبيرة لها علاقة بالمال العام وشبهات فساد وغسل أموال! ومن المؤسف أيضاً أن يتصدر اسم الكويت صفحات صحف عالمية مثل «نيويورك تايمز وول ستريت جورنال» ليس بغرض إنجاز مالي محقق أو استثمار استراتيجي، بل لارتباطها بفضائح وجرائم مالية دولية تنعكس سلباً على مركزها المالي وعلى سمعتها، كما انها لها اثر كبير في نظرة بعض مؤسسات التصنيف الائتمانية لمكانة البلاد. لا مفر من الإصلاح لقد عاصر الاقتصاد المحلي عدداً من الأزمات على مر العصور والأزمنة وبات مؤكداً بأن عقلية الانفتاح الاقتصادي الذي بدأت في عام 2003 رغم بطئها كانت جديرة بخلق ديناميكية جديدة في الاقتصاد وجعله أكثر مرونة لمواجهة الأزمات، إلا أن الأزمة الحالية الناتجة عن أزمة كورونا الصحية وانخفاض أسعار النفط يجب أن لا يصاحبها أزمة ثقة تزعزع سمعة الكويت في الأسواق العالمية. فنحن اليوم لسنا بحاجة إلى «فزعة» قصيرة المدى، نحن بحاجة إلى رؤية اقتصادية من المسؤولين والمتخصصين وجمعيات النفع العام الاقتصادية والمالية وأصحاب القرار لوضع خريطة طريق واضحة للإصلاح الاقتصادي وحزمة اقتصادية مالية متكاملة لمعالجة الخلل في الاقتصاد الكويتي على غرار ما حصل في 2003 تمكنه من عبور الأزمة والتأسيس لمرحلة جديدة في الاقتصاد الوطني ومبنية على قوة القانون ومتانة القطاع الخاص. وهذا لا يتحقق من دون ثقافة الوعي الاقتصادي من قبل الدولة والشفافية، وتسويق ملف الإصلاح بشكل مهني مدعم بالأرقام الواضحة حتى لا نعطي مجالا لتناقل الأرقام الخاطئة والتصورات غير الاقتصادية. Volume 0% محمد بدر الجوعان متخصِّص في الشؤون الاقتصادية
القبس