جولة حزينة..في متحف الغزو ،،،، بقلم / عبدالله بشارة
يدخل الغزو علينا، إلى غرفنا النفسية، مهما نجحنا في سد المنافذ، وإغلاق البيوت، وتحصين الذاكرة من قبحه وأهواله ومهانته وإذلاله، ومهما تعلمنا على الهروب منه، يبقى مرافقاً لنا ليس جيلنا فقط وإنما أجيالنا القادمة. ونعترف بغياب القدرة على النسيان ونذعن لأثقاله في نفوسنا على أمل أن نؤسس لحياتنا مفهوماً جديداً يتشكل من الدروس التي استوعبناها من كارثة الغزو. هناك ضرورات لابد من اطاعتها مهما كانت أثقالها علينا، ومهما تناقضت مع فلسفات كنا نؤمن بأهليتها في حمايتنا من الابتزاز الجغرافي، وهناك سلوكيات أخرى لم نمارسها لأننا كنا نظن بعدم الحاجة إليها. بعد مرور ثلاثة عقود على الغزو التعيس، لابد أن نتحدث بمفردات يفهمها الجميع، قد تكون غير مسبوقة، لكنها خرجت من رحم فجيعة الغزو، ومن حاجة الكويت إليها، وربما أبدأ بما يلي: أولاً: بعد ثلاثين سنة من الغزو السخيف، يعي سمو رئيس الوزراء أن الكويت دخلت في مرحلة الواقعية الكويتية المستجدة Post invasion Kuwait new realism التي تؤسس على صلابة الجبهة الداخلية في وحدة وطنية تتغذى من الولاء المتين للهوية، لا تسمح بدور للتفرقة في محتوى المجتمع، ويتحقق هذا النهج بالانضباط المجتمعي، القائم على سيادة القانون، وفرض العقوبة المناسبة على المؤسسات التي تتطاول على هذه الوحدة، مع فرضها بقوة القانون إذا ما تعرضت للتحدي. ثانياً: دولة الكويت صناعة من أياد كويتية، من الذين تواجدوا على أرضها منذ بداية القرن السابع عشر، لم ينشئها العباسيون ولا الأتراك ولم يتواجد عليها أحد قبلهم، جاؤوا معظمهم من الجزيرة، وبعضهم من إيران وقليل من البصرة، كانت علاقتهم بالجوار الأقرب «البصرة» علاقة تجارية وفق أحكام الجغرافيا، وكان بعض من قراصنة الخليج تخفوا فيها، هرب بعضهم إلى الكويت عندما احتل نادر شاه البصرة ملاحقاً هؤلاء القراصنة في بداية 1770، وكان من هؤلاء من يحمل مؤهلات صياغة الذهب والفضة والتجارة والبناء، فساهموا كثيراً في بناء الكويت، في صناعة السفن وفي إدارة التجارة البحرية، وعاشوا مستخرجين حياتهم من البحر، غوصاً أو عبوراً للمحيط الهندي، وتناغموا مع قسوة الكويت، وحققوا نجاحاً مكّن بعضهم من تملك بساتين نخيل في البصرة. وهندسوا هوية خاصة رسمتها الأرض والبيئة واملاءات المغامرات البحرية، فهويتنا غير هوية الجوار من إيران أو العراق، وبلدنا لم يكن عراقيا أو غيره، فدعائم الاستقرار الاقليمي تستدعي إزالة هذا الوهم من تصورات الجوار. ثالثاً: نقبل بمنطق الضرورة الحياتية، أن تشاركنا في آليات الأمن الوطني شركاء تلتقي مصالحهم معنا، ونشكل معهم شراكة المنافع المستديمة، يضمن الردع ويفسد طموح التوسعات وينتصر معنا في وجه الابتزازات، واعين لمعاني الشراكة وأثقالها، قائمة على حسن النوايا وطيب النفس، بالإضافة إلى التحصن بمفردات التآخي العربي التي نحتاجها لصون حياة مشبعة بالاستقرار والأمن والحياة الهادفة. رابعاً: مجلس التعاون، مهما تصدع، يتعملق عند تطاول الغرباء على أرضه وجغرافيته وتراثه التاريخي ووطنية أعضائه، وهو الامتداد الاستراتيجي للكويت، أمناً وسياسة، اقتصاداً وحياتياً، يظل رغم توعكه متواجداً في أمن الكويت، فلا مفر منه.. خامساً: نتحدث عن التركيبة السكانية الكويتية التي التزمت وبقوة في الوفاء والتضحية للوطن، ولم تخش المواجهة، ومسؤولياتنا أن نواصل المحافظة على نقاوتها مع ذهن منفتح لضم من يستحق خاصة من «البدون» والمؤهلين ومن صادقت اللجنة المختصة على وثائقهم، ومن مجموعة من أعطى وساهم وأضاف رصيداً للمحتوى الكويتي، مع إغلاق المنافذ التي يمكن أن تتسلل منها قوى الاحتيال والتزوير. سادساً: موقعنا الجغرافي يا سمو الرئيس بين ثلاثة قوى أكبر منا تربة وعدداً، نادراً ما توافر الانسجام بينها، متباينة في طوائفها وفي مآلاتها، وأدخل هذا التباين المنطقة اللصيقة في توتر شبه دائم يؤذي مصالح مرتبطة بالاستقرار السياسي والاقتصادي العالمي، لها اسقاطات تؤثر على الكويت، وتبنى حكام الكويت وبالذات الشيخ عبدالله السالم نهج التشاور مع رجال الكويت، لاسيما في أزمة قاسم عام 1961، استبدلنا هذا الإرث الناصح بالاستماع إلى أصحاب حسن النوايا من العرب، في وساطات لتطويق الأزمات، أدخل الغزو ضرورة بعث التقليد الكويتي المتوارث في نهج التشاور الداخلي لضمان الحشد الجماعي والتعبئة المتكاملة، في التأكيد على تفعيل قنوات الحوار الوطنية.. سابعاً: كلنا نستغرب حجم الاسترخاء في جسم الجهاز الإداري، المنفذ للقرارات، والمتابع لها، الذي يتحمل مسؤولية المتابعة، فلا سبيل للإنكار بأن حجم المفاجآت في التزوير والرشوة وفي التحايل والانفلات يأتي من اليقين بغياب الحساب، وضياع المساءلة، ولا ننكر أن الجهاز الاداري يحتاج إلى توعية وتطعيمه بالديناميكية لتخرجه من سكينة التراخي وتزيل منه غيوم الكسل.. تفاجئنا الصحف في سرد يوميات عن جرائم غير متوقعة، إيراني مديرا لغسل أموال، وبنغالي يستورد بؤساء من بلده، وتطاولات على رجال الأمن والشرطة من كويتيين وغيرهم، كل ذلك جاء من رخاوة تطبيق القانون، الكويت تنتظر قبضة قانونية تسجل فيها سطوة الانضباط.. ثامناً: تكتمل القوة في الجبهة الوطنية الداخلية إذا ما تحقق الانضباط في التعامل مع العمالة الوافدة، فلا يمكن ضمان الهدوء والسكينة المجتمعية إذا ما تجاوزت العمالة الوافدة حجم التركيبة السكانية الكويتية، فمن أساسيات الأمن ضمان الأغلبية الدائمة لمصلحة المواطنين، ومن فضائل الوعي الكويتي الجديد الإصرار على بقاء النسبة الأعلى للمواطنين، وعندما نفتح ملف العمالة الوافدة فإن العنصر المؤثر والمتحكم في ملفها هو حاجة الكويت. فالذي له مكان في مسيرة التطور الكويتي الشامل يبقى فيها، فلا يشكل عبئاً أمنياً واجتماعياً، كما لا يمكن التمسك بالنسب التي يدور الحديث عنها الآن، فالتوسع في خدمات التعليم والصحة والبناء يظل مستمراً وتوقعات التوسع فيه تظل تخمينات.. وأهم جانب في ملف العمالة الوافدة، الاستذكار بأن يبقى القرار الكويتي الأمني مستقلاً لا يتجمل ولا يتأثر من تدخلات حول العمالة الوافدة.. تاسعاً: في إحدى زوايا متحف الغزو سأضع لوحة فيها موجز عن الوضع الاقليمي المثالي المريح للكويت، الذي نتعايش معه باطمئنان ونتعاون معه بثقة نتمدد في بطنها، ويتولد ذلك الأمل من أنظمة جوار ديموقراطية مستقرة خالية من الأيديولوجيات ومتحررة من عبودية الأطماع، القول فيها للأغلبية، لاسيما في إيران والعراق، تعاملنا مع إيران في عهد الشاه وكان التوافق حول الحفاظ على توازن القوى بين الأطراف، وصون النظام السياسي الاقليمي، وتعاملنا مع العراق في عهد عبدالسلام عارف وكان عنيداً مغامراً، ومع عبدالرحمن عارف وكان ضعيفاً واهناً، ومع صدام حسين فوجدناه صعلوكاً متآمراً، فلا مفر من نظام ديموقراطي جامع لكل أطياف العراق بتراضٍ جماعي وولاء وطني، ولعل النظام في إيران يتفاعل مع المتغيرات إقليمياً وعالمياً ويتخلى عن التحريض والتدخل الغليظ في شؤون الآخرين، فالشعوب لا تقبل حكم الأساطير. عاشراً: هذه الكلمات هي تعبير عن الأماني، وأكبر بنود هذه اللائحة من الأماني استنهاض الهمة الوطنية الشاملة في مساندة شعبية لسمو رئيس الوزراء لترويض الكويت لواقعها الجديد. عبدالله بشارة a.bishara@alqabas.com.kw
القبس