كنت قد قطعت عهدا على نفسي ألا أمتدح شخصا حيا، ولم أود لحظة أن أكتب كلمة رثاء في عزيز، إلا أن القدر كبير والمصاب جلل والفقد موجع وباتت الكلمات سكينا في الفؤاد أبت ألا أن تجد لها مخرجا لتصطف ناظمة كلمة حق وحب ووفاء لرجل باع دنياه ليشتري خاتمته.
كان والدي، كما يسمي نفسه، الشيخ ناصر صباح الأحمد صريحا في قوله قويما في نهجه، ففي أول لقاء جمعنا قال لي: «يجب أن تعرف أن عندي لاءات ثلاثا، لا أشتري الناس بالمال، ولا التجار بالمناقصات، ولا الشيوخ بالجاه». ولم أره يفعل عكس ذلك ولو لمرة واحدة.
فكان يحرص على أن ما يجمع الناس من حوله مشروع ووطن لا رجل ومصلحة، كان دائما ما يردد مبادئ الحلم الذي حمله: «أريد للشعب أن يحيا بكرامة وعدالة عندما نعطيه أفضل تعليم لينهض بنفسه».
وكان قوله الراسخ «لا سياسة مع الفساد ولا مجاملة في بناء الكويت»، لكن الجملة التي لم أستوعب معناها حتى مشينا معه إلى قبره، عندما كان يقول «سو اللي يرتاح له ضميرك ولا تقلقك النتائج».
أما ما خفي عن كثير من الناس فهو حبه للقرآن، ليس ككتاب مقدس فقط بل كمصدر للمعرفة، فقبل شهر رمضان دخلت عليه وكان معه مجموعة كتب في الفكر الإسلامي، فسألته عن سبب اهتمامه بهذه الكتب فقال لي إنه ينوي ختم القرآن لكن هذه السنة بتدبر الآيات، فأي آية تستوقفه يبحث عن تفسيرها وسبب نزولها وما ترتب عليها من آثار، وذكر لي أنه وصل الى سورة النساء وبدأنا حديثا لم ينته حول تفسير بعض الآيات ثم أعطاني كتابين وعلق مازحا «يا ويلك إن ما رجعتهم».
كان لدينا اهتمام مشترك بالفن والتحف، وكنا نتداول الحوار حولهما بين وقت وآخر وعن مجموعته الأثرية (مجموعة الصباح) الشهيرة التي جمعها مع رفيقة دربه الشيخة حصة صباح السالم رغبة مني في الاستفادة من خبرته في هذا المجال، وسألته ذات مرة: لماذا ترفض بيع بعض القطع الأثرية التي تضاعفت قيمتها لتحقق أرباحا ليست بقليلة؟ فأجاب: «حتى لا يقال إن ناصر الصباح يبيع التاريخ بالمال».
لا عجب أن الرجل الذي عرف قيمة التاريخ وجمع تراثه لم يشأ أن يغادر التاريخ ويطوي صفحته قبل أن يحفر سيرته بأشرف المواقف ويجعل من اسمه أثمن قطعة تاريخية يورثها لأهله وبلده.
لم يكسب محبة الناس بفرض القوة، أو بجاه المشيخة، أو باستخدام سلطة، بل التف حوله الناس لإحساسهم العميق بصدقه، وحضورهم لمواقفه، وشهادتهم لبره بقسمه وعدله في عمله وحسن خلقه.
أتساءل في أول يوم لغيابه، أي حضور وقوة ومهابة وسيطرة فرضها على أفئدة الناس عندما تخفق القلوب لغيابه دون استئذان، وتدمع العين التي لم تره بمجرد عبور ذكراه.
لم يترجل الفارس بل مات على صهوة جواده، فكانت آخر مبادراته هي «دول حوض الخليج» والتي صاغها إبان توليه منصب النائب الأول وزير الدفاع وعرضها على بعض الدول الصديقة قبل وفاته ساعيا الى جمع دول المنطقة على كلمة سواء ببناء تحالفات استراتيجية لاستقرار المنطقة ومصلحة شعوبها.
وحتى قبل منيته بأيام كان حريصا أشد الحرص على ألا يغلبه المرض عن متابعة ما بدأه والعمل على تحقيقه.
أشهد أمام الله أنه بر بقسمه، ووفّى بعهده، وقدم ضميره لا مصلحته، وأشهد أنه لم يتطلع لمال ولا جاه ولا سلطة، ولم يسع في غير رفعة بلده وكرامة شعبه.
لم يهتم لأمر المنصب، فقد كان خادما للوطن من أي مكان جلس فيه. سنفتقدك ونفتقد كلماتك، ستفقدك أماكنك، أسرتك، أصحابك ووطنك.
ختاما، قد بلّغتني بأنك ستأخذ ابني بدر بسبب اهتمامه بالتاريخ في جولة على بعض المقتنيات التاريخية حال عودتك من السفر، وقد رحلت ولم يتحقق ما أردت، لكنني أعدك بأن قبرك سيكون جولة التاريخ الأولى لأبنائي ولأجيال قادمة ودرسا في اختبار الضمير وشجاعة الموقف.
خالص التعازي لصاحب السمو الأمير الشيخ نواف الأحمد، وسمو ولي العهد الشيخ مشعل الأحمد، وخالص التعازي لأسرته الكريمة، وقد حق لهم اليوم بأن يفتخروا بأنهم «أبناء الشريف» وكل المواساة لعموم الشعب الكويتي ومحبيه.
