«بيت يتيم» – بقلم : مشعل السعيد
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى
إلى كل ما فيه عليك مقال
البيت اليتيم هو البيت الذي لا ثاني له، وبيت الشعر هذا كذلك، والعجيب أن صاحبه لم يقل غيره طوال حياته، وقد قدم لنا نصيحة على طبق من ذهب، مفادها أن الانقياد وراء الهوى يجر الذنب تلو الذنب حتى يستصغر المرء ذنبه ويصبح أسيرا لخطاياه وذنوبه فتكثر المقالة فيه، والنفس أمارة بالسوء والمنة على من هداه الله ومثل هذه الفئة من الناس هم من باض الشيطان في صدورهم وفرخ فماتت ضمائرهم لذا تجدهم لا يحاسبون أنفسهم على ذنوبهم ومن مات ضميره قل فيه ما تشاء، ومن مال عن الحق مال الحق عنه، أما الهوى في اللغة فهو متابعة النفس على ما تهوى، والناس لا تخفى عليها خافية، وقد قال شيخ شعراء الجاهلية:
ومهما يكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
أما بيت الشعر اليتيم فيقوله أبو الوليد هشام بن عبدالملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب الأموي، عاشر خلفاء الدولة الأموية الأولى (132-40 للهجرة) وأمه فاطمة بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومية، ولد في دمشق سنة 72 للهجرة وأبوه يقاتل مصعب بن الزبير في العراق فسماه منصورا وسمته أمه هشاما فغلب اسم أمه على أبيه، وهشام هذا جد مؤسس الدولة الأموية الثانية في الأندلس«صقر قريش» عبدالرحمن الداخل بن معاوية بن هشام، سبق هشام في الخلافة يزيد بن عبدالملك وتبعه الوليد بن يزيد بن عبدالملك، وقد ذكر الطبري وغيره أن هشاما لم يقل من الشعر إلا الببت الذي أشرت إليه، امتدت خلافته الى نحو عشرين عاما فقد تولى الخلافة سنة 105 للهجرة حتى وفاته في رصافته سنة 125 واضطرب حبل بني أمية بعد وفاته واختل أمرهم وآذنت دولتهم بزوال، روى ابن الأثير وصاحب تاريخ دمشق وغيرهما أن هشاما رجل بني أمية سياسة وحزما وعزما ورأيا، كارها للدماء وفيه يقول الكميت بن زيد الأسدي وقد أمنه بعد أن أهدر دمه:
يا ابن العقائل للعقائل
والجحاجحة الأخابر
من عبد شمس والأكابر
من أمية فالأكابر
وحللت معتلج البطاح
وحل غيرك بالظواهر
أبني أمية إنكم
أهل الوسائل والأوامر
ثقتي لكل ملمة
وعشيرتي دون العشائر
وقد جمع هشام من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبله وكان يبخل، استعان أبو جعفر المنصور بدواوينه حينما تولى الخلافة لشدة ضبطها، قال هشام يوما لأصحابه: ما بقي من لذات الدنيا شيء إلا وقد نلته سوى أخ أرفع التحفظ فيما بيني وبينه، وعندما اشتد به المرض بكى أبناؤه حوله فقال لهم: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم له بالبكاء، وترك لكم ما جمع وتركتم عليه ما حمل، ما أشد منقلبي إن لم يغفر لي الله، ومن حلمه أنه شتم رجلا فقال له الرجل: أتشتمني وأنت خليفة الله في الأرض؟ فاستحيا منه وقال: اقتص مني، قال: إذن أكون مثلك! قال: فخذ عوضا، قال: لا أفعل، قال: فدعها لله، قال: هي لله ثم لك، قال هشام: والله لا أعود لمثلها. وكان زين العابدين علي بن الحسين قد اقترض من مروان بن الحكم أربعة آلاف دينار فلم يتعرض له أحد من بني مروان حتى استخلف هشام فقال له: ما فعل حقنا قبلك؟ قال: موفور مشكور، فقال: هو لك، وهذه الرواية لا تصح لتقدم وفاة علي بن الحسين على خلافة هشام إلا أن ابن كثير أوردها في تاريخه، ومن أهم الأحداث التاريخية في عهده ثورة الشهيد زيد بن علي بن الحسين بن علي رضوان الله عليه وعلى آبائه سنة 122 للهجرة وقتله وصلبه، ومن العجائب التي تذكر أيضا أنه لما مات هشام بن عبدالملك لم يجدوا له «قمقما» يسخن فيه الماء حتى استعاروه ولا وجدوا له كفنا فكفنه غالب مولاه فاعتبروا يا أولي الألباب وأترككم في رعاية الله.