لماذا تنفذ الولايات المتحدة أكبر عملية هدم سدود في تاريخها؟
تقول إيمي كورداليس، المستشارة العامة لقبيلة اليوروك، التي تعد أكبر قبائل السكان الأصليين في ولاية كاليفورنيا: “كان أجدادي وأجداد أجدادي صيادين. وكانوا يعتمدون على الصيد كمصدر دخل رئيسي لإعالة أسرهم. ولا نعرف مهنة أخرى غير الصيد”.
وتمثل مهنة الصيد، بلا شك، أهمية قصوى لقبيلة اليوروك التي تعيش منذ آلاف السنين في الغابات شمالي ولاية كاليفورنيا. لكن في العقود الأخيرة، تأثر مصدر رزق أفراد القبيلة بعد إقامة سدود على نهر كلاماث، الذي يجري عبر أراضيها، لتوليد الطاقة الكهرومائية.
وبعد سنوات من المفاوضات المضنية، يبدو أن حظوظ شعب اليوروك ستتغير قريبا، بعد إعطاء الضوء الأخضر لأكبر مشروع إزالة سدود في تاريخ الولايات المتحدة.
ونشأت كورداليس في مدينة أشلاند بولاية أوريغون، لكنها تزور بلدة ريكوا، بالقرب من مصب نهر كلاماث شمالي كاليفورنيا، بين الحين والآخر، لترى أهلها وتحضر طقوس القبيلة وأيضا لكي تصطاد.
وتقول: “عندما كنت صغيرة، كانت الأسماك تهاجر بأعداد كبيرة عكس تيار النهر لتضع الإناث بيضها. فكنا نصطاد في اليوم الواحد 100 أو 200 سمكة. وعندها، تشعر أنك تفعل ما خلقت من أجله. فستملأ ثلاجتك وثلاجات أفراد عائلتك، وستعطي السمك لجميع الناس الذين تهتم بهم حتى يمتليء منزلهم بالطعام”.
وتشير كورداليس إلى أن المال الذي يجمعونه من بيع الأسماك الفائضة عن حاجتهم يشترون به ملابس لأطفالهم أو ثلاجات أو سيارات. فالصيد مصدر دخل مهم في هذه القبيلة التي يبلغ متوسط دخل أفرادها 11 ألف دولار في السنة.
لكنها ترى أن ممارسات الصيد التي توارثتها عن أجدادها لم تعد تصلح في الوقت الراهن، بسبب تراجع أعداد الأسماك في النهر، إلى درجة أنها عندما تذهب للصيد مع صغارها في النهر لا تجد شيئا تصطاده.
وتؤيد الأبحاث ذلك، إذ أشارت دراسة إلى أن أعداد الأسماك التي تهاجر الآن نحو منبع نهر كلاماث، الذي كان يشهد ثالث أكبر هجرة لأسماك السلمون في الولايات المتحدة، لا تمثل إلا نسبة ضئيلة من أعدادها الأصلية. وهناك نوع من أسماك السلمون الخمسة التي تستوطن المحيط الهادئ، وهو سلمون شينوك، الذي كانت تهاجر مئات الآلاف منه في فصل الربيع لتضع بيضها، يكاد يختفي تماما من النهر. فقد رُصد منها 700 سمكة فقط خلال الهجرة العام الماضي.
وصنف قانون حماية الأنواع المهددة بالانقراض الأمريكي، أسماك سلمون كوهو، التي قد يصل طولها إلى 76 سنتيمترا وقد يتجاوز وزن اليافعة منها خمسة كيلوغرامات، بين الأنواع المهددة بالانقراض.
وحمّلت دراسة أجرتها الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي السدود التي أقيمت في نهر كلاماث مسؤولية تراجع أعداد أسماك السلمون المهاجرة. فقد أقيمت على النهر ثمانية سدود في الفترة ما بين مستهل القرن الثامن عشر وعام 1962 لتوليد الطاقة الكهرومائية. وربطت دراسات بين وجود السدود وبين التغير الملحوظ في أعداد السلمون في نهر كلاماث وغيره.
ويقول مايكل بيلشيك، عالم البيولوجيا بمصائد قبيلة اليوروك: “بناء السدود في النهر له دائما تبعات واسعة النطاق، إذ يقسم السد النهر إلى شطرين. ولا تحمل الأنهار المياه فقط، إذ تجري المياه نحو مصباتها، وتهاجر الأسماك نحو منابعها، وهناك أيضا مغذيات ورواسب وكائنات حية أخرى”.
وتمنع السدود أيضا تدفق الرواسب إلى المصبات، فلا يتبقى في قاع النهر أسفل السدود سوى صخور ضخمة توفر البيئة المواتية لنمو الديدان عديدة الأشواك التي تعلق بهذه الصخور. ويقول بيلشيك: “إن الحركة الدائمة في قاع النهر تحول دون تكون مستعمرات من هذه الديدان في كل شبر من قاع النهر. فهذه الديدان انتشرت الآن في كل مكان في النهر”.
وبالرغم من أن هذه الديدان ليست مضرة، فإنها تعد عائلا لطفيلي “سيراتونوفا شاستا”، الذي ثبت أنه يؤذي أسماك سلمون شينوك اليافعة. ويقول بيلشيك إن سد “آيرون غيت” الذي يقع في نهاية حوض نهر كلاماث السفلي، هيأ الظروف المناسبة لانتشار هذه الطفيليات. فالأسماك التي لم تتمكن من الوصول للمصب كانت تضع بيضها أسفل هذا السد، ولهذا كانت عرضة للإصابة بهذه الطفيليات.
ويقول بيلشيك إن كل هذه العناصر ساعدت على تفشي مرض يقتل الآن 80 أو 90 في المئة من الأسماك في النهر. فعندما تكون الأسماك ذات تنوع وراثي محدود وتعيش في منطقة جغرافية محدودة، فإنها تصبح عرضة للكوارث التي تهدد بانقراضها، سواء أمراض أو فيضانات.
وتساعد الخزانات خلف السدود على تراكم الطحالب السامة، التي تعيش في المياه الدافئة والراكدة والغنية بالمغذيات. وإذا تجاوزت هذه الطحالب حدا معينا فإنها تشكل خطرا على صحة البشر. وفي فصل الخريف، تفتح الخزانات وتجري المياه التي تحتوي على الطحالب السامة نحو مصب نهر كلاماث، الذي تعيش على ضفافه قبيلة اليوروك.
ويقول فرانكي ميرز، نائب رئيس قبيلة اليوروك: “تلقينا لتونا الإعلان الذي يكاد يتكرر كل عام، بأن تركيزات مادة مايكروسيستين في النهر والطحالب الخضراء المزرقة بلغت مستويات خطيرة. ومن ثم أصبحت ممارسة بعض عاداتنا وطقوسنا الروحانية، وليس الصيد فحسب، تمثل خطرا على صحة وسلامة أفراد القبيلة”.
نحو التجديد
وتطالب قبيلة اليوروك وائتلاف من قبائل ومنظمات بيئية أخرى منذ وقت طويل بإزالة السدود الأربعة في حوض نهر كلاماث السفلي لحل هذه المشاكل. وبعد مفاوضات مضنية، توصلت شركة “باسيفيكورب” التي تشغل الثمانية سدود إلى اتفاق مع 40 جهة أخرى، منها قبائل وحكومات محلية في عام 2010.
ويعد مشروع إزالة السدود الأربعة التي يبلغ ارتفاعها مجتمعة 411 قدما، أكبر مشروع لإزالة سدود في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وسيكون أيضا الأعلى تكلفة، إذ ستقترب تكلفته من 450 مليون دولار.
ومن المتوقع أن يساهم هذا المشروع في استعادة 400 ميل من المواطن الطبيعية لأسماك السلمون وغيرها من الأنواع المهاجرة من الأسماك في النهر. ويقول بيلشيك إن إزالة السدود التي كانت تعرقل وصول الأسماك إلى منابع الأنهار التي كانت تضع فيها بيضها، ستساعد في زيادة التنوع الوراثي وتقلل تكدس الأسماك في أماكن محدودة، ومن ثم ستقلل مخاطر انتقال الأمراض.
ويرى بيلشيك أن اتصال نهر كلاماث مجددا بروافده وينابيعه الباردة سيسهم في خفض درجة حرارة المياه في النهر، وهذا سيحسن جودة المياه، لأن درجة الحرارة المنخفضة تقلل مخاطر حدوث ظاهرة ازدهار الطحالب وتزيد بذلك تركيز الأكسجين المذاب وتحسن مستويات الأس الهيدروجيني.
ويشير بيلشيك إلى أن أسماك السلمون تستفيد من برودة المياه عند الهجرة ووضع البيض وأنها أكثر عرضة للأمراض في المياه الدافئة. وستساعد المياه الباردة الأسماك في الصمود في مواجهة تغير المناخ، وستشكل الرواسب المتدفقة وقاع النهر المتحرك بيئة طاردة للديدان عديدة الأشواك التي تطلق طفيليات قاتلة للسلمون.
وقد عادت مشروعات إزالة السدود السابقة بفوائد جمة على النظم البيئية، فقد أزالت الولايات المتحدة أكثر من 1700 سد، منها 90 في العام الماضي. ففي عام 2016، أسفرت إزالة سدين في نهر بينوبسكوت بولاية مين عن استعادة 2000 ميل من المواطن الطبيعية لأسماك السلمون وغيره من الأنواع الأخرى. وزادت أعداد الأسماك المهاجرة التي تعود إلى النهر لتضع بيضها، مثل السلمون والرنجة.
وأسهمت إزالة سدين كبيرين في نهر إيلوا بولاية واشنطن في عام 2014 في استعادة 75 في المئة من المواطن الطبيعية لوضع البيض في النهر التي كانت السدود تحول دون الوصول إليها. ولوحظ أكثر من 1600 عش لسلمون الشينوك في هذه المنطقة.
وكتبت سارة مولي وزملاؤها من الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، أن أسماك السلمون المرقط لم تظهر في النهر قط قبل إزالة السدين، وقدرت أعدادها في الهجرة الصيفية بعد إزالته بنحو 300 على الأقل.
سابقة عالمية
إن عملية إزالة السدود الكبيرة ليست هينة، إذ تبدأ خطة إزالة سدود نهر كلاماث بخفض منسوب المياه خلف جدار السد، وبعدها تبدأ عملية الهدم، وتستخدم شاحنات لإزالة الحجارة والأنقاض. وستغطى قيعان الخزانات بعد سحب المياه منها بغطاء حيوي يحميها من التآكل ونباتات محلية للحد من انتقال الرواسب إلى البحر.
وأيدت شركة الطاقة “بايسفيكورب” مشروع إزالة السدود، لأن تجديد رخصة تشغيل هذه السدود كان سيكلف مستهلكي الكهرباء نحو 400 مليون دولار مقابل إضافة تعديلات على السدود لضمان الالتزام بالتشريعات. لكن في حالة إزالة السدود، سيدفع المستهلكون 200 مليون دولار، وستدفع ولاية كاليفورنيا 250 مليون دولار.
ولن تخسر الشركة الكثير فيما يتعلق بالطاقة المتولدة، فهذه السدود لا تسهم إلا بنحو ثمانية في المئة من إجمالي سعتها الإنتاجية التي تبلغ 2.208 ميغاواط من مصادر الطاقة المتجددة.
وتقول كورداليس: “أعتقد أن الجانب المثير من هذا المشروع هو أنه سيمثل نموذجا يحتذي به العالم. فقد تعاونت الشركة مع الحكومات المحلية والقبائل ومناصري البيئة للوصول إلى اتفاق يقضي بإزالة السدود حتى يستفيد المواطنون الأمريكيون والقبائل من استعادة النظم البيئية في النهر بطريقة أقل كلفة من تجديد ترخيص تشغيل السدود”.
ويقول ميرز: “أرى أننا نفهم جميعا الآن أن هناك قبيلة وثقافة كانت مهددة. وشددنا في المفاوضات على أن جهود إزالة السدود لن تسهم في استعادة أعداد السلمون والنظم البيئية فحسب، بل ستكون أيضا بمثابة تصحيح للأخطاء التي ارتكبت في حق السكان الأصليين على مدى 150 أو 200 عام”.
إذ يرى سكان قبيلة اليوروك أن هذه السدود رمز للاستعمار. ويقول ميرز: “هذه السدود هي تماثيل للحرب التي خضناها هنا على ضفاف نهر كلاماث. وتدمر هذه التماثيل نهرنا وبيئتنا وثقافتنا”.
ويشير ميرز إلى أن الاتفاقية التي أبرمت بين قبيلة اليوروك وبين الحكومة الفيدرالية في الخمسينيات من القرن السابع عشر تقضي بأن تظل القبيلة داخل حدود أراضيها ولا تتجاوزها، على أن توفر لها الحكومة في المقابل مستوى كريما من العيش للأبد. ويقول ميرز إن إزالة السدود تساعد الحكومة في تحقيق وعودها التي أخفقت في الالتزام بها.
وتقول كورداليس: “نعيش على موارد النهر منذ آلاف السنين. وبحسب معتقداتنا، فإن الخالق بدأ بخلق النهر ثم اليابسة وبعدها الحيوانات والنباتات وأخيرا الإنسان، وقال للإنسان: ‘سأسخر كل شيء هنا في خدمتك ولن ينقصك شيء ما دمت لا تؤذي البيئة ولا تهدر مواردها الطبيعية، ولا تأخذ أكثر مما تحتاج لإعالة أسرتك’. وهذا يكشف عن الطريقة التي نتعامل بها مع النهر وجميع الموارد الطبيعية”.
ربما تكون السدود أثرت على هذه العلاقة التكافلية بين قبيلة اليوروك وبين النهر، لكن إزالة هذه السدود ستزيد من قوة هذه العلاقة القديمة.