الطبيعة: قصة “الغابات المقدسة” التي تحمي أجزاء من الصين من كوارث طبيعية
إذا قادتك قدماك في يوم من الأيام إلى إقليم فوجيان بجنوب شرقي الصين، وتحديدا إلى وادٍ ضيق يقع في محمية ميووشان الطبيعية القائمة هناك، فستجد قرية عتيقة يقطنها أبناء عرقية “الهاكا” تحمل اسم “كوسوبينغ”. ويتمثل الملمح الرئيسي لهذه القرية في أنها تحظى – وفقا لاعتقاد سكانها – بحماية “غابة مقدسة”، من الرياح الباردة التي تهب عليها من الشمال.
فالأشجار دائمة الخضرة التي تتألف منها هذه الغابة، وتلتف على شكل هلال حول هذه القرية، تطوق أكواخها ذات اللون الأبيض المبنية من الطوب اللبِن، وتحيط كذلك بمعبدها قرمزي اللون. وبفضل هذه الأشجار، ظلت تلك القرية النائية التي تتعرض للأنواء والأعاصير وتهطل عليها أمطار يبلغ منسوبها 200 ميلليمتر سنويا، قادرة على البقاء على حالها، على مدار 400 عام مضت.
وتشكل هذه الغابة، واحدة من عشرات الآلاف من الغابات البِكر المماثلة، التي تتوزع على مناطق مختلفة في الأقاليم الواقعة في وسط الصين وجنوبها، ويُطلق على الواحدة منها اسم غابة “فنغ تشوي”، في إشارة إلى فلسفة صينية قديمة، تتمحور حول فن التناغم مع الفضاء المحيط. ويُعتقد أن هذه المساحات الخضراء القائمة في تلك البقاع من قديم الزمان، تجلب لسكان المناطق المحاذية لها الصحة والرفاهية. وقد انتفع بها لأكثر من ألف عام، أبناء قومية الهان، الذين يتألفون في الأساس من عرقيتيْ الهاكا وهوي تشو.
ويعود أول نص مُدوَّن يتحدث عن تلك الغابات إلى القرن الثالث الميلادي، ويشير إلى أنها كانت تُستخدم في تلك الحقبة لحماية مقابر الأباطرة. وبالتزامن مع انتقال أبناء قومية الهان من شمال الصين إلى جنوبها، شرع هؤلاء في تشييد القرى، بحسب التصميمات المُستلهمة من فلسفة “فنغ شوي”، وذلك لتحسين “تدفق الطاقة” ولحماية مقابرهم ومعابدهم وقراهم. وفي تلك الفترة، شيد القرويون منازلهم أسفل منحدرات الجبال، التي تنمو عليها غابات مثل هذه، كما زرعوا أشجار فواكه ونباتات طبية بين جنباتها.
وفي الوقت الحاضر، يرى خبراء البيئة أنه من الممكن لهذه الغابات وللقرى التي توفر لها الحماية كذلك، أن تلعب دورا مهما على صعيد تعزيز الجهود، التي ستبذلها السلطات الصينية في المستقبل لحماية البيئة، وتغيير الوضع الراهن الذي لا يبدو إيجابيا.
فبحسب تقديرات باحثين من الأكاديمية الصينية للعلوم، لا يتجاوز نصيب كل صيني، من الغابات الواقعة في وطنه، 25% في المئة من المتوسط العالمي المُسجل على هذا الصعيد، كما أن الصين تشكل البقعة الأكثر تسببا في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم بأسره.
لكن هذا الوضع قد يتغير، بفعل الخطة التي أعلنت عنها السلطات الصينية مؤخرا، وتهدف من خلالها إلى جعل البلاد “محايدة الكربون” بحلول عام 2060، وهو ما يعني المساواة بين ما يُضاف إلى الغلاف الجوي فوقها من الكربون، بسبب استخدام الطاقة وجراء العمليات الحيوية الطبيعية، وما يتم استهلاكه من هذا العنصر الكيمياوي، بفعل عمليات التمثيل الضوئي لدى النباتات. وتشمل هذه الخطة أيضا زيادة مساحة الغابات الموجودة في الصين بحلول عام 2035، لتشكل 26 في المئة من أراضيها، وهو ما يقارب مساحة ألمانيا.
لكن رغم الخطط الضخمة التي تتبناها الصين لحماية البيئة، فلم تكن جهودها السابقة الرامية لإعادة التشجير، ناجحة على الدوام، وهي تلك الجهود التي اعتمدت فيها على غرس أشجار لا يشكل هذا البلد الآسيوي منشأً أصليا لها، أو على اللجوء إلى أسلوب “الزراعة الأحادية” الذي يؤتي بنتائج سريعة، لكنه يعتمد على زراعة محصول واحد، في مساحة واسعة من الأرض. وفي الوقت الحالي، يعتقد العلماء أن غابات “فنغ تشوي”، يمكن أن تساعد على أن تشهد الصين، عمليات “غرس أشجار على نحو مستدام”، باعتبار أن هذه الغابات تعج بمجموعة واسعة من الأشجار والنباتات صينية المنشأ، التي تلائم مناخ هذا البلد أكثر من غيرها.
ومع أن مساحة كل من هذه الغابات، قد لا تتجاوز بضعة أفدنة، فإنها تتميز بالثراء على صعيد التنوع البيولوجي. فأشجارها تنحدر من أصل تلك الأشجار، التي كانت تنمو قديما في قارة هائلة كانت تحمل اسم “لوراسيا”، انقسمت فيما بعد لتتشكل قارتا أمريكا الشمالية وآسيا. وكانت غابات تلك القارة العتيقة، تحتوي على أشجار دائمة الخضرة عريضة الأوراق، تشتهر بأنها مقاومة للتلوث، وتشكل ما يُعرف بـ “بالوعات لامتصاص الكربون”.
وفي وقت مبكر، وتحديدا في عام 2008، اقترح علماء من جامعة جنوب الصين الزراعية في مدينة قوانغتشو، أن يعتبر المسؤولون عن تخطيط المدن، غابات “فنغ شوي” نماذج للنمو الحديث المستدام للمدن المختلفة، وهو ما يعني أن يتوخى هؤلاء الحرص على أن يحيطوا التجمعات السكانية الناشئة بجيوب من المساحات الخضراء التي تنعم بتنوع بيولوجي، وذلك لتمكين هذه المناطق من الصمود في وجه التلوث والأمراض.
ويقول كريس كوغينيس، أستاذ الجغرافيا والدراسات الآسيوية في الولايات المتحدة، إن كل غابة من غابات “فنغ شوي” هذه، صُمِمَت على شاكلة تستهدف “خلق التناغم بين البشر والطبيعة والقوى الخارقة للطبيعة كذلك”. وقد كان أبناء عرقية “الهان” يعتقدون أن لكل منها “حراسا خارقين يمثلون الجهات الأربع الأصلية”، ما حدا بهم لاعتبار هذه الغابات “مقدسة”. وقد احتوى العديد منها بين جنباته على معابد تعبق بالبخور، وتُكرس لآلهة الأرض.
ويصر كوغينيس على أن لهذه “الغابات المقدسة” أهمية عملية كذلك، إذ أنها تساعد القرويين المقيمين بالقرب منها، على إدارة الموارد الخاصة بهم، وحمايتها من التآكل والفيضانات، كما تجعل بوسعهم تحسين قدرتهم على الحفاظ على المياه من أجل ري محاصيلهم. ويشير في هذا الشأن إلى أنه على الرغم من أن “قول القرويين إن الغابة تحافظ على الثروات في داخلها، يبدو من قبيل الخرافات”، فإنه قد ينطوي على جانب من الصحة، فـ “إذا كان هناك تآكل ما للأراضي، ولم تكن هناك غابة قريبة تحول دون حدوثه، فسيزحف ذلك على حقول الأرز، ما يُفقد المزارعين ثرواتهم بالفعل”.
وفي الماضي، كان من حق كل معلم لفلسفة “فنغ شوي” يعيش في منطقة ما، اختيار الموقع الذي تُقام فيه القرية هناك، بحيث يكون بمقدور سكانها الاستفادة على الوجه الأمثل من عناصر الطبيعة المحيطة بهم. وتقول كيتي تشيك المسؤولة عن الحفاظ على الموارد في جامعة هونغ كونغ، إن كل موقع يُصنّف من بين ما يُعرف بمواقع “فنغ شوي”، يجب أن يحتوي على “قرية وجبال وغابة ونهر وأرض زراعية، حتى يكون مكتمل العناصر الأساسية”.
وكانت مداخل غالبية القرى المُقامة في هذا الإطار، تواجه جهة الجنوب، وتوجد بالقرب منها غابتان؛ إحداهما خلف جبل يقع وراءها، ويُطلق عليه عادة اسم “جبل التنين الخلفي”. أما الأخرى، فتقع قبالة القرية، وتحمل اسم “غابة بوابة المياه”.
ويقول بيلي هاو، العالم في بيئة الغابات في جامعة هونغ كونغ: “توفر غابات الـ `فنغ شوي` الظل في الصيف، وتحمي القرية من الرياح الموسمية الشتوية، التي تهب من الشمال”. وهكذا فمن خلال التصدي لهذه العناصر الجوية، يمكن أن تتحول الرياح القوية القادمة من الشمال إلى نسيم عليل، وتتسنى الاستفادة من الفيضانات لملء مستجمعات المياه، التي يتم الانتفاع بها لري حقول الأرز.
ولا عجب في أن هذه الغابات تحديدا ظلت على حالها حتى اليوم، إذ كان قطع أشجارها يُعتبر بمثابة تدنيس لها. فلم يكن مسموحا للقرويين سوى بجمع الفروع المتساقطة من هذه الأشجار كل عامين، ضمانا لعدم المساس بها أو بسلامتها. وحتى خلال فترة حكم الزعيم الشيوعي الصيني ماو تسي تونغ للبلاد بين عاميْ 1949 و1976، كان القرويون المنتمون لعرقية “الهان” يوفرون الحماية لتلك الغابات دون ضجيج، رغم أن الطابع المقدس الذي يُسبغ عليها كان يُعتبر آنذاك بمثابة “خرافات ترتبط بعهد الإقطاع”.
من جهة أخرى، تتباين – من إقليم صيني لآخر- العواقب التي يعتقد الصينيون، أنها تصيب من يُقْدم على قطع أشجار غابات من هذا النوع. ففي قرى إقليم قوانغدونغ مثلا، يؤمن السكان بأن لتلك الأشجار خصائص علاجية، ما يحدو بهم للاعتقاد بأن من سيقطعها سيقع فريسة للمرض. أما في جيانغسو، فيتم إجبار من يُضبط وهو يقطع أشجار تلك الغابات، على تقديم خنزير كتعويض، أو إضرام النيران في الخشب الذي قطعّه بشكل غير مشروع.
وفي الوقت الذي لا يزال فيه القرويون في شتى أنحاء جنوب الصين، يوفرون الحماية لغابات الـ “فنغ شوي” الواقعة في أقاليمهم، فقد باتت السلطات تولي اهتمامها لذلك أيضا. ففي مطلع تسعينيات القرن الماضي، قررت سلطات مقاطعة وويوان في إقليم جيانغشي، إدراج تلك الغابات على قائمتها للمناطق المحمية. ولذا طُلِبَ من القرويين عدم استخدام مبيدات الآفات في هذه المناطق، وفُرِضَت غرامات على أي أضرار تلحق بغابات الـ “فنغ شوي” القريبة. ومنذ ذلك الحين، اتسعت رقعة الحماية الحكومية لهذه الغابات، لتصل إلى مناطق أخرى، مثل مقاطعة نانجينغ في إقليم فوجيان.
اللافت، كما يقول كوغينيس، إن الكثير من الصينيين لم يسمعوا من قبل قط عن غابات الـ “فنغ شوي”، رغم أنها فلسفة تضرب بجذورها في تاريخ البلاد، وذلك لأنها كانت من بين الموضوعات التي يُحظر الحديث عنها، خلال فترة حكم ماو.
ويرى كوغينيس أن ثمة إمكانية لاعتبار الغابات من هذا النوع، نواة لعمليات إعادة التشجير واسعة النطاق في الصين. ويقول في هذا الصدد: “تنفذ السلطات الصينية هذه العمليات، بوتيرة أسرع من أي دولة أخرى. وهي تقطع أشواطا هائلة باتجاه إنتاج الطاقة على نحو مستدام. ولذا إذا عَمَدت هذه السلطات إلى ضخ الحياة من جديد، في شرايين غابات الـ `فنغ شوي` (عبر زراعة الأشجار بين جنباتها بدلا من تركها لتنمو وتتوسع بشكل طبيعي)، فسيُحْدِث ذاك فارقا ملموسا على صعيد الاستفادة منها كـ `بالوعة` لثاني أكسيد الكربون. ورغم أننا قد نحتاج إلى مواصلة البحث وبذل الجهود، لنحو خمسين عاما، فإن ذلك سيؤدي إلى حدوث فارق” في نهاية المطاف.
وقد شهدت هونغ كونغ مؤخرا إطلاق مشروع طموح، شهد انتقال عدد من سكان المدن، للإقامة في قرية عتيقة نائية يعود عمرها إلى 300 عام، ويقطنها أبناء عرقية “الهاكا”، وتندرج على قائمة منظمة اليونسكو لما يُعرف بـ “الحدائق الجيولوجية العالمية”. ويستهدف المشروع، الذي يحمل اسم “لاي كاي وو”، مساعدة السكان الأصليين للقرية، على إحيائها من جديد. في الوقت نفسه، تنتفع السلطات من غابة الـ “فنغ شوي” الموجودة في هذه المنطقة، لإعادة تشجير مناطق أخرى من هونغ كونغ، إذ يستخدم علماء النباتات هناك تلك الغابة وغيرها من الغابات المماثلة، لجمع البذور، ودراسة الحياة النباتية والحيوانية.
ويقول الدكتور غونتر فيشر، المسؤول عن إدارة الحفاظ على الحياة النباتية في الحديقة الواقعة في تلك المنطقة، إن غابات الـ “فنغ شوي” ذات أهمية بالغة، في ضوء أنها تشكل المساحات الخضراء الوحيدة المتبقية من الغابات، التي كانت موجودة في هونغ كونغ قديما، مشيرا إلى أنها “تُظهر لنا كذلك الشكل المحتمل للغابات الأصلية، التي سبق أن وُجِدَت يوما ما في هذه المنطقة”.
وفي إطار مشروع “لاي كاي وو”، يعكف عدد من علماء البيئة على تعليم السكان كيفية استخدام الفحم الحيوي الموجود في التربة، لكي يضمنوا امتصاصها لثاني أكسيد الكربون، خلال عملية الزراعة. وفي المقابل، يُطلِعهم القرويون على وصفات الطهي الخاصة بهم، وتفاصيل اللهجة السائدة بينهم، وغير ذلك.
كما يوفر السكان لزائريهم، جولات يتفقدون فيها المباني الـ 200 التي تتألف منها القرية، والتي تشمل منازل ومعابد ومقابر للأجداد. كما حول أهل القرية 12 منزلا أثريا، شُيّدت من الطين والرمال وقش الأرز وأصداف المحار، إلى دور ضيافة، يمكن للعامة ارتيادها، ومن المقرر افتتاحها عام 2021. وأدى النجاح الذي حققه هذا المشروع، إلى التخطيط لتوسيع نطاقه خلال 2021، ليشمل قرية مجاورة يقطنها أبناء عرقية “الهاكا” أيضا. ومع أن المشروع ربما يكون صغيرا، فإن القائمين عليه يشعرون بالتفاؤل بشأن مستقبله، وإمكانية توسيع نطاقه ليضم مزيدا من المناطق.
وتشارك كيتي تشيك، المسؤولة في جامعة هونغ كونغ، في إدارة مشروع “لاي كاي وو”، وتقول إن ما يحدث في هذه القرية العتيقة، يمكن أن يساعد القاطنين في أماكن أخرى، على التفكير في كيفية إدارة مواردهم على الوجه الأمثل. وتضيف بالقول إن لدى سكان تلك القرية “طريقة بالغة الذكاء، ومُلهمة للغاية، في الانتفاع بمواردهم الطبيعية، فهم لا يستخدمون سوى ما يحتاجون إليه، إذ أنهم ليسوا مسرفين أو مبذرين بشدة”.