تتضمن الوصايا خلاصة تجارب الحياة لكل إنسان يحس باقتراب موعد مغادرته لدار الدنيا، وتراه يسارع لإسداء النصح لأحبابه أو ليحملوا رسالته بعد أن يغادر هذه الدنيا، وهكذا كان الأمر مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلقد بلغ من العمر ستين عاما وقد عاد لتوه من معركة صفين ضد المارقين عن الحق الذين عاثوا في الأرض فسادا باسم الدين ولقد كان يرى قرب رحيله، ولذلك أوصى ابنه الإمام الحسن بحقائق ينبغي أن تعمل بها الإنسانية كلها إذا ما أرادت أن تحافظ على حريتها التي تقترب اليوم من الدمار بسبب عبودية المال والفساد والجهل التي تدمر روح الإنسان وتفقده ذاته، ولذلك بدأت الوصية بالذات الإنسانية وبتحديد أصل الخير في الإنسان والقيمة الذاتية التي تعطي للحياة المعنى والغاية والهدف، فقال رضي الله عنه: «أوصيك بتقوى الله يا بني ولزوم أمره وعمارة قلبك بذكره والاعتصام بحبله»، والتقوى هي القيمة الأساسية لأن الإنسان بدونها ليس إلا كائنا حيا مجردا من الفضائل ومن التوازن وهي التجلي الذي يفيض على الروح بالطمأنينة وهي الحب الذي يحجب الإنسان عن الرذيلة والشر وكل فعل شائن.
لقد أوصى أمير المؤمنين بضرورة التمحور حول غاية سامية حقيقية لكي لا يقف الإنسان عند حدود الدنيا وحسب بل يتخطاها إلى الحياة الدائمة حياة الروح. يقول الإمام (ع) أيضا: «يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها، لا تظلم كما لا تحب أن تظلم وأحسن كما تحب أن يحسن إليك واستقبح لنفسك ما تستقبحه من غيرك وارضَ من الناس ما ترضى لهم منك ولا تقل ما لا تعلم بل لا تقل كل ما تعلم ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك واعلم أن الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب»، يا له من إعجاز بلاغي ومعرفي إذ اختصر الطريق على بني الإنسان فأوضح له كيف تُصاغ المسؤولية المجتمعية التي تحقق السلم المجتمعي والتعاون الإنساني بحق.
إن أهم ما يميز الإنسان عن الحيوان هو التعقل والنزاهة الأخلاقية والسعي نحو المعرفة وتطهير الروح لأنه قادر على الاختيار وصاحب إرادة حرة، ولذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ولا تكونن ممن لا ينتفع من العظة إلا بما يلزمه، فإن العاقل يتعظ بالأدب والبهائم لا تتعظ إلا بالضرب».
إن تنوير العقل هو المقدمة لقوة الإرادة، ولا يوجد معنى الحياة لدى الإنسان دون ذلك، فالعظة ليست تخويفا أو ترهيبا أو ترغيبا أجوف كما نراها اليوم، بل إنها الفكرة الصحيحة والالتزام الصادق الذي يسميه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه «الأدب» وبالأدب يحيا الإنسان بسمو ونقاء ويعمر الأرض.
