قبل أربع سنوات، دخل دونالد ترامب واشنطن دخول الفاتحين. أكثر المتفائلين من أنصاره وقتها لم يكن ليتوقع فوزه بالرئاسة في 2016. وسائل الإعلام الرئيسية توقعت فوز هيلاري كلينتون، الوزيرة المخضرمة والخبيرة في شؤون البيت الأبيض حيث أقامت فيه، وربما أدارته جزئياً، لثماني سنوات خلال رئاسة زوجها بيل كلينتون بين عامي 1993 و2001. خالف انتصار ترامب التاريخي كل التوقعات. دخل السياسة الأميركية من أوسع أبوابها وهو المتطفل عليها. كان سلاحه الرئيسي شعارات عاطفية خاطبت الناخب الأبيض في شكل رئيسي، ذلك الناخب الذي اعتقد يوماً أن صوته لم يعد ذا تأثير على ما يحدث في «مستنقع» واشنطن الآسن، والممتلئ فساداً. بعد يومين فقط، يخرج ترامب من البيت الأبيض، ولكن خروج المنبوذين هذه المرة، ذليلاً مطأطئ الرأس. حتى مسقط رأسه نيويورك لفظته. يقال إنه سيقضي بقية عمره في فلوريدا. أما ما بين هذين التاريخين، نوفمبر 2016 ويناير 2021، فجدير جداً بكتب التاريخ. فلن يقدر أحد أن يزعم أن ترامب كان رئيساً عادياً. كانت رئاسته استثنائية في كل شيء. وليس ذلك استحساناً، بل كثير من جوانب تلك الفترة كان مخالفاً لأبسط أصول السياسة وتقاليد الرئاسة. لكنها في كل الأحوال فترة جديرة بالدراسة طويلاً، ممتلئة بالعبر. فترة ربما غيّرت أميركا إلى الأبد. يجمع المؤرخون على أن 2020 عام تاريخي بامتياز، فهو عام وباء الكورونا الذي شل العالم ودمر اقتصادات كبيرة وغيّر من عادات الناس وطباع حياتهم إلى الأبد. وباء أظهر بجلاء مقدار الضعف البشري وهشاشة الكثير من الدول التي كانت تعتبر متقدمة إلى اليوم الذي وصل فيه كوفيد-19 إلى حدودها. لكن 2020 لم يكن بالزخم التاريخي نفسه لو لم يكن ترامب. خرج منه ترامب كأحد خمسة رؤساء أميركيين خدموا فترة رئاسية واحدة فقط، فضلاً عن ذلك أنه الرئيس الوحيد في تاريخ الولايات المتحدة الذي قرر مجلس النواب عزله مرتين، كما أنه ربما الشخصية العالمية الوحيدة التي تم حظرها من قبل كل مواقع التواصل الاجتماعي. يذكر التاريخ أن ونستون تشرشل، الزعيم البريطاني التاريخي وقائد التحالف الغربي في الحرب العالمية الثانية، تعرض لأفدح هزيمة انتخابية في بريطانيا بعد شهرين فقط من إعلان الحلفاء النصر على ألمانيا النازية. فقد اكتسح العمال انتخابات يوليو 1945 محققين أغلبية بقيت إلى اليوم الأكبر في تاريخ الحزب بينما اكتفى المحافظون بقيادة تشرشل بأقل من مئتي مقعد مقابل نحو 393 للعمال. قيل وقتها إن تشرشل قائد حرب وليس بزعيم سلام. ويذكر التاريخ كذلك أن شارل ديغول، بطل الحرب وقائد المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، خسر أول انتخابات عامة بعد انتهاء الحرب واعتزل العمل السياسي حتى عام 1958 حين انهارت الجمهورية الرابعة. وقيل وقتها كذلك إن ديغول كان يريد حكومة يقودها كما يقود الضابط فصيله، مما أدى إلى خلافات عميقة مع الأحزاب الرئيسية التي كان يعول عليها لتشكيل حكومته، فخسر 1945 التي جاء الحزب الشيوعي فيها بالصدارة. بالطبع لا يمكن مقارنة ترامب بتشرشل أو ديغول، وهما من هما، قائدان غيّرا التاريخ، بما في ذلك تاريخ العرب الحديث، ولكن لا بأس هنا من استدلال ربما يفسر بعض الشيء خسارة الرئيس الأميركي الانتخابات وغضبته التي تجاوزت حدود المعقول إلى مسرح العبث. فترامب نتاج ظاهرة اجتماعية، لا تخلو من بعض السياسة، تمر بها المجتمعات حيناً، وتنأى عنها معظم الأحيان. هي ظاهرة «التخلي الجمعي» عن المسار الطبيعي للأمور، هي سكرة لابد تتبعها فكرة. فصعود ترامب الصاروخي إلى قمة الهرم السياسي الأميركي كان نتيجة غزل اجتماعي مؤقت (في بعض دوائر الحزب الجمهوري بشكل خاص، وعند غالبية بيضاء بشكل عام) لأفكار محافظة جداً، قد تصل حد العنصرية، كما رأينا في أحداث السادس من يناير في مبنى الكونغرس. ترامب صعد على ظهر تلك الأفكار، واعتبرها- خاطئاً- خطة عمل. أفكاره غير المفلترة لا تعبّر عن أميركا: الجدار، وقف الهجرة، ابتزاز الدول الحليفة، تسطيح المنصب الرئاسي عبر معارك تافهة على مواقع التواصل الاجتماعي، وغير ذلك من السلوكيات التي استهجنها حلفاؤه قبل خصومه. تعيينه أفراد أسرته في مناصب حساسة في الإدارة خالف كل أصول العمل السياسي. لم يفرق بين الخاص والعام، فاستغل منصبه لمصلحته الشخصية. كما رهن سياسة الولايات المتحدة الخارجية لكبار المتبرعين لحملته الانتخابية وشركاء العمل التجاري، كما كان الحال مع شيلدون آديلسون، إمبراطور القمار الذي توفي الأسبوع الماضي، الذي كان وراء معظم قرارات ترامب في ما يخص فلسطين، بما في ذلك قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، خروجاً على سياسة أميركية استمرت عقوداً طويلة بالامتناع عن الاعتراف بالمدينة المحتلة عاصمة لإسرائيل. سلسلة تاريخية من الأخطاء توّجها ترامب بخطيئته الكبرى في التحريض على العنف في يوم التصديق على نتائج الانتخابات. في نوفمبر 2020، بدا واضحاً أن الشعب الأميركي، أو أغلبه على الأقل، نفض عنه الوهم، وانتبه إلى الأعداد المهولة التي قتلها فيروس كورونا، والملايين من الذين فقدوا وظائفهم بسبب الانكماش الاقتصادي، فيما بدا الرئيس غير عابئ بذلك كله، ومنغمساً حتى الثمالة بمعاركه الكلامية ضد خصومه. انتبه الناخب الأميركي إلى أن ترامب لا يصلح رئيساً. كانت رئاسته لحظة تاريخية تخلى فيها الأميركيون عن المنطق. وسيظل التاريخ يذكر أن الولايات المتحدة بين عامي 2016 و2021 انقسمت كما لم تنقسم منذ الحرب الأهلية، بل كانت على وشك الدخول في نزاع داخلي آخر لولا البعض من العقلاء في الحزب الجمهوري الذين تنكروا في لحظة تاريخية فارقة للولاء الحزبي، وصوتوا بالموافقة على مساءلة الرئيس عن دوره في التحريض على العنف. رغم العنجهية الظاهرة من قبل الديموقراطيين الذين يصرون على إذلال ترامب حتى اللحظات الأخيرة من رئاسته، فإن موافقة بعض الجمهوريين، لا سيما زعيمهم السيناتور ميتش ماكونيل، على اقتراح عزل الرئيس كان له الدور الرئيسي في سحب بساط التوتر وتفادي ادعاء ترامب بأنه ضحية حملة ديموقراطية ظالمة. لكن الشرخ سيزداد إذا تمادى الديموقراطيون، والمجموعات الليبرالية، بما فيها مؤسسات الإعلام التقليدي والجديد، في السعي نحو «الثأر». وربما تحول ذلك الشرخ نزاعاً أهلياً أكثر عنفاً. وساعتها سيذكر التاريخ أن رجل أعمال أهوج فاز بالرئاسة في لحظة غاب عنها العقل، وتسبب في شقاق اجتماعي وانقسام عنيف استمر سنوات طوالا تلت اختفاءه في منتجع ما في ولاية فلوريدا.
